السذج والحمقى والدهماء من الناس

السذج والحمقى والدهماء من الناس

د. محمود المعلول

كاتب وباحث ليبي

قبل الخوض في هذا الحديث تجدر الإشارة إلى تعريف الساذج في اللغة وهو الإنسان البسيط غير المحنك قليل النباهة والدهاء ، وهو الذي ينخدع بسرعة ، وقليل التبصر بالأمور ، وهو الغبي الغافل الذي يصدق كل ما يقال له.

ويقول أبن خلدون (702 ـ 808 هـ / 1332 ـ 1406 م) في كتابه المقدمة أن العرب من طباعهم السذاجة والبداوة ، ولذلك كان حملة العلم في الإسلام أكثرهم من العجم، وليسوا من العرب كما يقول (يقصد أبن خلدون الأعراب).

وأما الحمق فيعرفه أبو هلال العسكري ( ت 395 هـ / 1005 م ) في كتابه الفروق في اللغة بأنه الجهل بالأمور الجارية في العادة، ربما يقصد (الانفصال عن الواقع) ولا يسمى الجهل بالله حمقاً ، وأصل الحمق الضعف ، ومن ثم قيل البقلة الحمقاء لضعفها، وقيل للرجل أحمق لضعف عقله، وفي التاريخ الإسلامي لقب عيينة بن حصن الفزاري بالأحمق المطاع لأنه كان أعرابي جلف فيه جفاء.

تنقسم الأمم والشعوب إلى قسمين أو فئتين هم فئة النخب الصالحة أو المتعلمة أو الغنية ودائماً ما يجتمع العلم والصلاح فالمتعلم في كثير من الأحيان هو من الصالحين أو من أهل الخير والفلاح ومن سادة القوم ، وأما الفئة الثانية فهي فئة الناس العاديون البسطاء ، وهناك من يسميهم دهماء أو غوغاء أو عامة وغيرها من أسماء ، وهذه الفئة غير واعية بما يدور حولها ، وغير متعلمة ، وهي تميل مع الريح وفق المصالح والأهواء .

وعبر التاريخ جعل الله سبحانه وتعالى القيادة والرئاسة لفئة النخبة الفئة الصالحة الواعية ، وفئة العامة تبع لها ، وعلى هذا الأساس هي تكوينات شعوبنا العربية ، ومن بينها شعبنا الليبي.

ولقد كانت السيادة والرئاسة في التاريخ الإسلامي أساسها الصحيح هي الدين والصلاح والتقوى مثل الخلفاء الراشدين ومن جاء بعدهم ، ثم تأتي بعدها العوامل الأخرى كالغنى والشجاعة والكرم والقوة سواء بكثرة الأولاد أو الأتباع.

أما الأمم الأخرى فليست السيادة فيها لأهل الخير أو الصلاح أو التقوى فساد فيها السفاحون والأغنياء والأقوياء أمثال نيرون ويوليوس قيصر وهولاكو وجنكيز خان وستالين وغيرهم كثيرون.

والحمقى والسذج من الناس والمغفلون والجهال هم أشد خطراً على الأمة وحاضرها ومستقبلها من العدو الخارجي لأن العدو الخارجي معروف ويعمل علانية ، أما أولئك الحمقى والمغفلون والأغبياء فلا يمكن معرفتهم يسيرون حسب أهوائهم ومصالحهم ، يقول الشيخ محمد الغزالي ( 1917 ـ 1996 م ) : ( ليس من الضروري أن تكون عميلاً لتخدم عدوك يكفيك أن تكون غبياً ) ، مثلهم في ذلك مثل المنافقين فالله سبحانه وتعالى لما ذكر المنافقين قال ( هم العدو فأحذرهم ) سورة المنافقون الآية 4 ، ولما ذكر الكفار قال ( فلا تخافوهم ) سورة آل عمران الآية 175.

أهل ليبيا

أهل ليبيا أكثرهم من الأعراب سكان البوادي والقفار ، ومن طباع الأعراب السذاجة والجفاء في المعاملة وهؤلاء الأعراب كما ذكر أبن خلدون بعيدون عن العلوم والصناعات والاستقرار والحضارة لديهم الكثير من الأمور التي أقرهم عليها الإسلام كالشجاعة والعفة والغيرة ونجدة المظلوم والكرم وغيرها من صفات محمودة.

امتدح كثير من الرحالة والمؤرخين الذين مروا بليبيا الشعب الليبي وكرمه وجوده ، وبأن هذه البلاد هي بلاد العلم والصالحين والمجاهدين.

لقد كانت بلادنا بلد الجود والكرم فأحد الرحالة الذين مروا بهذه البلاد يذكر كرم أهل منطقة زليتن ( ظلتين ) فيقول عنهم بأنهم قدموا لهم أربعين ( 40 ) قصعة بازين ، بالإضافة إلى الدلاع والتمور ، وكانت الناس في القديم مترابطة تسودها المحبة والود والتعاون فالبيئة كانت مختلفة عما هي عليه اليوم فالشوارع ضيقة والبيوت كانت صغيرة ومتلاصقة ، ووسيلة النقل كانت الحيوانات من جمال وحمير وخيول ، وكانت لرجل الدين والعلم مكانة كبيرة بين الناس أكثر من الحاكم أو الوالي نفسه حيث يقول أحد القناصل الأوروبيين في عهد يوسف باشا القرمانلي ( 1795 ـ 1832 م ) واصفاً ذلك إن أحد العلماء كان يركب على حمار أشهب ، وكان الناس محيطين به ، وكانت له مكانة وشعبية كبيرة عند الناس أكثر من مكانة الباشا نفسه الذي لا يلتفت إليه أحد.

فيا أخي القارئ الكريم أنظر إلى عقلية الناس في ذلك الزمان وكيف كانت تحترم مكانة العالم والفقيه ، وأن العلماء في طرابلس كان يلجأ إليهم المظلومون والمطاردون فلا تستطيع السلطة الحاكمة الوصول إليهم بما تملك من قوة وجيش وشرطة ، أما اليوم فأنظر إلى مكانة هؤلاء العلماء والفقهاء ، والسبب هو تغير عقلية الناس.

وقد اشتهرت بلادنا ( ليبيا ) بأنها بلد العلم والمعرفة والكرم والجود ، وبلد الصالحين والعلماء ، ولذلك حرص الرحالة والجغرافيون والحجاج المغاربة على التوقف بها ، ولقاء علمائها وزيارة أضرحة وقبور الصالحين من أهلها ، وزيارة مساجدها وسلاطينها وأمرائها.

والسؤال الذي يفرض نفسه هو لماذا كان الناس في ذلك الزمان بهذا الشكل الرائع الجميل ، وما هو السبب الذي جعلهم يقدمون الغالي والنفيس في سبيل الدين والوطن ضد الغزو الإيطالي ، ولماذا تغير الناس اليوم بهذا الشكل الرهيب؟؟؟؟؟؟

السبب في رأيي هو تأثير الدين في عقلية الناس حيث غير من عقليتهم ، ومن نمط حياتهم ، أما اليوم فقد ضعف الوازع الديني ، وابتعد الناس عن الأخلاق والقيم ، فأصبحت مكانة العالم أو الفقيه لا تساوي شيئاً عندهم بعكس أيام زمان حيث كانت للعالم مكانة كبيرة أكبر من مكانة الوالي أو الحاكم نفسه.

فبعد الناس عن الدين يعتبر من أهم الأسباب لتخلفهم وضعفهم وتردي أوضاعهم بهذا الشكل ، والسبب الآخر هو ما خلفه النظام السابق من أرث فكري وتنشئة لم تخلق في نفوسهم أي أخلاق أو سلوك قويم ، بالإضافة إلى العوامل الأخرى كالعولمة والاطلاع على العالم المجاور بخيره وشره ، والاقتداء بالغالب أي المنتصر أو المتفوق وليس شرطاً أن يكون الغالب يحتل الأرض ، وإنما يحتل الفكر ، سنة اقتداء المغلوب بالغالب كما يقول المفكر أبن خلدون.

بعض ما ذكره الرحالة عن ليبيا – طرابلس

يقول الرحالة التجاني وكان قد زار ليبيا سنة 706 هـ / 1307 م عن العالم والفقيه أبن الأجدابي (ت بعد 470 هـ / 1078 م) :(كفي لهذا الرجل العظيم القدر فخراً لهذا القطر) ، فقد كان من العلماء الكبار ، وله رسالة في علم الحول كانت تدرس بأوروبا في العصور الوسطى ، ألفها بسبب أن أحد العلماء أهانه فقال له: “أسكت يا أحول فلا استدعيت ولا استفتيت”.

ولكن للأسف نحن شعب لا نقرأ تاريخنا ، ولا نفخر ونعتز بعلمائنا ومجاهدينا ، ويحضرني في هذا المجال أن أحد الأساتذة العراقيين كان يفخر ويعتز بقومه ويقول : نحن العراقيين أصحاب ثورة العشرين فقلت له : أنت ربما لا تعلم لقد دارت في بلادنا ـ ليبيا ـ مئات المعارك الطاحنة من الصباح حتى المساء بين المجاهدين والإيطاليين ، فلم يحارب ويجاهد أي شعب عربي أكثر مما جاهد الليبيون من حيث (كثرة المعارك).

ويقول المؤرخ أبو عبيد البكري (ت 487 هـ / 1094 م ) في كتابه المسالك والممالك عن أهل طرابلس (إن أهل طرابلس من أحسن خلق الله معاشرة ، وأجودهم معاملة، وأبرهم بغريب).

ويذكر الإمام سحنون بن سعيد ( 160 ـ 240 هـ / 777 ـ 854 م ) بعد عودته من طرابلس عندما سئل عن أهلها فقال “رأيت بطرابلس رجالاً ما الفضيل بن عياض أفضل منهم”، والفضيل هذا كان من أشهر العباد والزهاد في التاريخ الإسلامي حتى لقب بعابد الحرمين، وقال عنه عبد الله بن المبارك: “ما بقي على ظهر الأرض عندي أفضل من الفضيل”.

وهذا الرحالة الأندلسيالقلصادي ( 815 ـ 891 هـ / 1412 ـ 1486 م ) يقول عن طرابلس وكان قد زارها سنة 850 هـ / 1446 م ( وبلغنا طرابلس فنزلنا وتلاقينا مع بعض الأصدقاء وحبونا بالبر والإكرام).

وأنظر إلى قول الرحالة العياشي ( 1037 ـ 1090 ه ـ / 1627 ـ 1679 م ) عن أهل طرابلس ، وكان قد زارها سنة 1059 هـ / 1649 م حيث يذكر ( جمع لأهلها من زكاء الأوصاف وجميل الأنصاف ، وسماحة على المعتاد زائدة ، وعلى المتعافين بأنواع المبرة عائدة ، لا تكاد تسمع من واحد  من أهلها لغواً إلا سلاماً ولو لمن استحق ملاماً ، سيما مع الحجاج الواردين ، ومن انتسب إلى الخير من الفقراء العابدين ، فإنهم يبالغون في إكرامهم ، ولا يألون جهداً في أفضالهم عليهم  وأنعامهم).

فما أجمل هذا الوصف لأجدادنا في الماضي لا تسمع منهم كلاماً قبيحاً أبداً حتى لمن استحق العقاب والتوبيخ فياله من وصف جميل ، ويا أخي القارئ الكريم أنظر إليها اليوم ، وفي هذا العصر وهي خراب يباب ، وأقبح الألفاظ تسمعها وأنت مار بشوارعها.

وقال الرحالة الناصري ( ت 1239 هـ / 1823 م ) الذي زارها سنة 1211 هـ / 1796 م ( والحاصل مدح البلد وأهلها وحسن أخلاقهم وجودهم سارت به الركبان وعلم علمائها ملأ الخافقان ، وفضلهم من شمس الضحى أظهر وأوضح).

وقال عن كرم وجود أهل ليبيا بعد مروره بدرنة وبنغازي وطرابلس الرحالة الموريتاني أبن طوير الجنة الذي زارها سنة 1247 هـ / 1831 م ( وأما ما فعل معنا أهل ………… درنة وأهل بنغازي وأهل طرابلس من أنواع الإكرام وأنواع الإنعام فلا تحصيه الدفاتر ، وتقصر عن عده الأقلام والمحابر).

تجدر الإشارة إلى أن هناك ظروفاً اجتماعية وسياسية واقتصادية هي التي تتحكم في بناء العقلية والثقافة لأي شعب ، والشعوب العربية تتشابه مع بعضها في كثير من الظروف فمن الناحية الثقافية تحكم النظام السابق في بناء المنظومة العقلية والثقافية والفكرية لجيل كامل حوالي ( 42 ) سنة عجاف من القهر والتسلط ، وعدم بناء الإنسان عن طريق وجود عدالة وديمقراطية وصحة وتعليم وقانون وتنمية بجميع مستوياتها لأن النظام السابق كان يؤمن أن ارتفاع مستوى دخل الفرد أو حصوله على سكن أو سيارة أو مرتب جيد وهذه الأشياء من حقوقه بطبيعة الحال ، ولكن حصوله على تلك الأشياء يؤدي به إلى الاهتمام بالشأن العام أي السياسة بالتالي سيشكل خطراً على النظام.

شيء طبيعي أن توجد المتناقضات في أي مجتمع فمجتمعنا فيه الصالح والطالح كـأي مجتمع من المجتمعات البشرية فهنالك الخاصة والعامة وهناك السذج البسطاء الطامعون إلى المناصب والمغانم والوظائف وهناك المتعلمون الصادقون الأوفياء الشرفاء:

  • هنالك الثوار الصادقون وهنالك الأزلام والثورة المضادة.
  • هنالك المجاهد عمر المختار ورفاقه، وهنالك من يصفه بالخيانة وأنه زعيم العصاة مثل (صحيفة بريد برقة) الصادرة بتاريخ 18 / 9 / 1931 م.
  • هنالك المجاهدون الصادقون الشرفاء ، وهنالك الخونة والعملاء الفلاقةالمطلينيين ، ومن يصف موسوليني بقوله مرحبتين بكازي روما من غيره ما فيش حكومة.
  • هنالك الصالحون والأشراف وهنالك قطاع الطرق والأوباش واللصوص.
  • هنالك معالي القوم من علماء أجلاء ووجهاء وهنالك الأنذال وسفلة ـ أراذل ـ القوم والسوقة.

من الملاحظ أن أغلب الناس بدون مسلمات أو ثوابت ولذلك تجد حكمهم على الأشياء نابع من المصلحة الشخصية فقط ، فتجد الشخص يقف مع قبيلته أو أبناء عمومته حتى لو كانوا على باطل فالصحيح أن تقف مع الحق وتدور حيث دار ، وليس كما قال الشاعر المفتخر بقبيلته دريد بن الصمة ( ت 8 هـ / 629 م ) فارس قبيلة هوازن:

وهل أنا إلا من غزية إن غوت …………………. غويت ، وإن ترشد غزية أرشد

إن الذي يحدد الثوابت والمسلمات هو الدين فالمسلم الحق أو المؤمن الحق هو الذي يحتكم إلى هذه المسلمات فكما قال أحد الصحابة الكرام ( إذا رأيتم الرجل يطير في الهواء أو يمشي على الماء فحكموه إلى كتاب الله ) فالإنسان المسلم يكون على حق كلما كان على هذا المنهج ، وكلما بعد وانحرف عن المنهج يكون على باطل وهكذا تقاس الأمور ..

ولكن بسبب انتشار الجهل وعدم وجود تنمية اجتماعية واقتصادية وسياسية ترفع من مستوى الناس وثقافتهم وتفكيرهم تحدثت كل تلك الأشياء فالإنسان بطبعه يحب الجدال والعناد والبعد عن الحق وتغليب المصلحة الشخصية فالنظام السابق وكل الأنظمة العربية الحاكمة لم ترفع من مستوى الناس ، ولم تحقق تنمية للناس فالتنمية التي ترفع من قدر الناس ومستواهم وثقافتهم هي التعليم والصحة والإسكان والديمقراطية وسيادة القانون على الجميع والعدالة فلو طبقت هذه الأشياء تطبيقاً صحيحاً ستتأثر الناس ، وستتغير نحو الأحسن والأفضل .

وأغلب المفكرين والفلاسفة والحكماء يجمعون على أن الإصلاح يأتي من الحاكم ولي الأمر لأنه هو الذي بيده اصدار القرارات وتطبيق القوانين والسهر على مصالح الناس فقد قال المفكر ابن المقفع في كتابه الرسالة ( وقد علمنا علماً لا يخالطه شك إن العامة لا تصلح من قبل نفسها وإنما يأتيها الإصلاح من قبل إمامها ) .

وهكذا فإن عقلية الناس أهم من يصنعها هو الإعلام ( الرأي العام يصنعه الإعلام ) ، وقد قسم العلماء والمؤرخون الناس كما ذكرنا آنفاً إلى فئتين هما فئة العوام وفئة الخاصة ففئة العوام هي الفئة التي لا تفهم ولا تحلل الأحداث بل تتبع الجو السائد والهوى العام ، والعوام يسيرون كما يقول المثل وراء كل ناعق بمعنى يمكن أن يقودهم أي شخص مغامر في سبيل تحقيق أي هدف ، وفي عالمنا العربي ( ولو ظهر فيهم صلاح الدين لقتلوه ) …..

وخير دليل على ذلك وسائل الإعلام المضللة تجدهم ينساقون ورائها بدون تحليل أو تفكير فيقولون لك قالت الإذاعة الفلانية كذا وكذا ، وقتل كذا بدون تحليل أو فهم أو تروي أو فهم للأمور.

والعوام أو السذج من الناس ليس لديهم تحليل للمواقف التي تجري أمامهم سواء أدت إلى مصلحة أو مفسدة ، بل يستغلهم الحاكم المستبد لتحقيق مصالحه ، ويقول المؤرخ الكواكبي ( 1271 ـ 1320 هـ / 1855 ـ 1902 م ) في كتابه ـ طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد ـ إن العوام هم قوة الحاكم المستبد فهو يستغلهم ويخدعهم ويحقق بهم أهدافه يسجنهم ويقتلهم ويغتصب نساءهم ويسرف في أموالهم فيقولون كريماً يمدحونه ويهتفون له.

ويمكن القول عن العوام ( السذج ) بأنهم هم الذين ليست لهم مواقف أو هم ممن لا يتبعون العلم الشرعي ، أو هم ممن يسير مع الريح حيثما سارت طمعاً في المصالح والمنافع بغض النظر عن القيم والمبادئ ، وهؤلاء الناس والعوام يطلق عليهم في مجتمعنا الليبي كلمات نابية غريبة على الأسماع ليسمح لي القراء الكرام بذكرها وكتابتها وهي ( الهبود والبزقليف وعساكر السوسة).

ويسمون أيضاً بالدهماء وهم عامة الناس وسوادهم ، والدهماء في اللغة المصيبة العظيمة ، والليلة شديدة السواد وقانا الله منها.

وحتى في مجال السياسة هناك ما يعرف بحكومة الدهماء وهي حكومة غالبية الشعب يسودها استبداد الأغلبية (الديماغوجيا) ، ويكون فيها الحكم بالعواطف وليس بالعقل والمنطق.

واذكر أني ذكرت وأسررت لأحد الأصدقاء فقلت له : إن فلان ليست له مبادئ أو قيم فهو متقلب مع الريح يتقلب مثل الحرباء ، فرد عليَّ : تلك هي السياسة الحقة أما المبادئ والقيم فاحتفظ بها لنفسك ولا تظهرها لأحد.

ويسمى بعض العوام بالرعاع وهم الغوغاء من الناس والسفلة ـ أراذل القوم ـ  والمتسرعون إلى الشر ، والرعاعة في اللغة من لا قلب له ولا عقل ، وقد قال العالم والفقيه أبن القيم ( 691 ـ 751 هـ / 1292 ـ 1349 م ) إن الرعاع في أي مجتمع هم الأكثرون عدداً ، كما يسمى عامة الناس بالسوقة وهم الذين يسوقهم الملوك بسياستهم فالناس ملوك وسوقة ، والسوقة هم الرعية المحكمون.

ويذكر التاريخ أن هؤلاء الغوغاء والدهماء والرعاع والسذج والسوقة من الناس أهدافهم وأدوارهم كانت متمثلة في السلب والنهب والتعدي على أملاك الناس وسرقتها ونهبها بغير وجه حق ، والتعدي على الأعراض وسفك الدماء والخروج والفوضى والمؤازرة لأي مغامر وناعق ، والتصفيق للحاكم إلى غير ذلك من المنكرات.

والغوغاء والدهماء ظاهرة اجتماعية في أي مجتمع تكثر كلما كثر الجهل والتخلف ، وقد أشار كثير من المؤرخين والكتاب والأدباء إلى وجودها في المجتمعات فالأديب تشارلز ديكنز ( 1812 ـ 1870 م ) ذكر في روايته (قصة مدينتين) أن الغوغاء عند قيام الثورة الفرنسية كانوا يرفعون أصواتهم عند قطع رأس كل إنسان ، ويبصقون على كل سجين يجر إلى ساحة الإعدام  ويستهزئون به ويسبونه.

واتساءل عن بعض المواقف المسجلة في تاريخ ليبيا لمن حضر بعض الإعدامات التي جرت للمعارضين في عهد النظام السابق ، ومن كان حاضراً ويهتف فذلك الشخص لا يخرج من التصنيفات الثلاثة التالية:

  • إما أنه يعرف الحق ولكنه من المنافقين الطامعين للسلطة والمال بقتل هؤلاء الصالحين وتصفيتهم وإعدامهم .
  • أو أنه من السذج والمغفلين والدهماء والغوغاء بحضوره وهتافه ( نصفيهم بالدم ) .
  • أو أنه من المجرمين لأن من حضر القتل ورضى به كان كمن قام بالقتل …

وقد ذكر الغوغاء العالم أبو سليمان البستي الخطابي ( 319 ـ 388 هـ / 931 ـ 988 م ) في كتابه ( العزلة ) حيث أورد أن رجلاً أتى أبا عاصم النبيل فقال له : إن امرأتي قالت لي : يا غوغاء ، فقلت لها إن كنت غوغاء فأنت طالق ، فما العمل وهل أنا فعلاً من الغوغاء؟

فسأله أبو عاصم : هل أنت ممن يحضر المناطحة بالكباش والمناقرة بالديوك ؟ فقال الرجل : لا . فسأله أبو عاصم : هل أنت ممن يحضرون يوم يعرض الحاكم الظالم أهل السجون فيقولون فلان أجلد من فلان ؟ فقال الرجل لا ، فقال له أبو عاصم : هل أنت ممن يجلس على ظهر الطريق انتظاراً حتى يمر الحاكم الظالم ( بمعنى يهتف ويصفق للحاكم )  فقال الرجل : لا  ، فقال له أبو عاصم : لست من الغوغاء إنما الغوغاء من يفعل هذا.

وهكذا أوضح هذا العالم إن الغوغاء والدهماء والسوقة هم من يصفرون ويصفقون ويزمرون للحاكم ، والحاكم بهذا المعنى يشمل جميع المسؤولين ـ سواء كان مديراً أو وزيراً أو مسؤولاً ، وهم من يهتم بصغائر الأمور ، ويحضرون مناطحة الكباش والديوك.

وكذلك هناك الهمج وهم الحمقى من الناس ، والهمج في اللغة سوء التدبير في المعاش، وقيل الهمج الجوع وقيل الشاة المهزولة، وقيل الذباب الصغير.

وقال الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه الناس ثلاث:

[1] . عالم رباني

[2] . متعلم على سبيل نجاة

[3] . همج رعاع ينعقون وراء كل ناعق

وقال الإمام الماوردي ( 364 ـ 450 هـ / 974 ـ 1058 م ) في كتابه الرائع بدائع السلك في طبائع الملك نقلاً عن الإمام الخطابي ( الواجب على العاقل أن لا يغتر بكلام العوام ، وثنائهم وأن لا يثق بعهودهم ….. فإنهم يقبلون مع الطمع ويدبرون مع الغنى ، ويطيرون مع كل ناعق ، وكان الحسن إذا رآهم يقول هؤلاء قتلة الأنبياء).

ولذلك كان من أشهر القواعد الفقيه أن العامي لا مذهب له ، وإنما مذهبه مذهب الشخص الذي يفتيه ، قال العالم أبن نجيم المصري ( ت 970 هـ / 1563 م ) في كتابه البحر الرائق ( مذهب العامي فتوى مفتيه من غير تقييد بمذهب).

وقد قال أحد الحكماء لأبنه وهو يوصيه : يا بني إذا أردت الرئاسة على الناس فعليك بالمال والعلم فالعامة عوام الناس تفضلك بما تملك ( بالمال ) والخاصة خواص الناس تفضلك بما تحسن (بالعلم).

يتضح مما سبق أن أهل الحق أو الصفوة أو الصلاح هم القلة وليس الأكثرية وهم أهل القيادة والرئاسة ، والسبب بسيط لأنهم أهل العلم والكفاءة والمقدرة ، وعليهم أن يقودوا هذه الفئة بالإصلاح والتربية والتوجيه وتقديم الخدمات لها ، لكي يصلح المجتمع كله.

ولذلك وجب على الحكومة أن تقوم بتوجيه هذه الفئة ، وتقديم الخدمات لها ، وأن تقوم بإصلاحها لأنهم الأكثرية فهذه الفئة تصلح عن طريق التربية التي هي بمعناها العام تقويم السلوك ،  وكذلك تطبيق القانون الصارم ، وتحقيق العدالة والمساواة بين جميع طبقات الشعب ، وهذه الفئة كما يثبت التاريخ صالحة وجاهزة للقيادة والتوجيه سواء نحو الخير أو الشر ( حاكم صالح أو حاكم مستبد ) لأن الناس على دين ملوكهم حيث يؤثر فيها من يقودها فيمكن للحكومة أن تصلحها ويمكن لها أن تفسدها.

أما فئة الخواص فهم أهل العلم والسياسة والحكم وهم الفئة المثقفة الواعية بما يجري حولها من أحداث ، أو هي الفئة المقربة من أصحاب اتخاذ القرارات ـ أهل الكفاءة والخبرة والاستشارة ـ وهي الفئة المسؤولة عما يجري بالمجتمع ، ويمكن أن نسميهم بالنخبة.

وقيل أن فئة الخاصة هم فئة العلماء ( أهل العلم ) وهم الطائفة المأمور بأتباعها في أحد الأقوال لأنها هي الفئة التي على الحق ، وهم فئة الأشراف وإذا هلكت هذه الفئة هلكت فئة الأتباع والعامة ، ولا تصلح الناس إلا على أشرافهم ، وقد قال الشاعر:

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ……………………. ولا سراة إذا جهالهم سادوا

إن طبيعة الناس تختلف حسب نشأتهم وتعلمهم وتربيتهم فمواقفهم من الأحداث تختلف من شخص لأخر ، والدليل على فساد الناس ، وقلة وعيهم وثقافتهم انتخابهم لأشخاص فاسدين ليسوا صالحين فالصحفي والروائي الإنجليزي جورج أورويل ( 1903 ـ 1950 م ) يقول : ( إن الشعب الذي ينتخب الفاسدين والانتهازيين والمحتالين والنهابين والخونة لا يعتبر ضحية بل يعتبر شريكاً في الجريمة ) ، فكيف انتخب الناس هؤلاء الفاسدين ما لم تكن تنشئة هؤلاء الناس وثقافتهم فاسدة أصلاً ـ كما تكونون يولى عليكم ـ بمعنى أن ثقافة ووعي الناس لم يكن حسب المطلوب حتى يعرفوا ويميزوا بين الخير والشر بين الصالح والفاسد.

والناس على دين ملوكهم إذا صلح الملوك صلحت الناس وإذا فسد هؤلاء الملوك فسدت الرعية وقد قال الشاعر :

إذا كان الرئيس كذا سقيماً ……………………… فكيف صلاحنا بعد الرئيس

بمعنى لا يمكن صلاح الناس إذا كانت الحكومة فاسدة.

وفي ديننا الإسلامي هناك الرويبضة وهو الشخص التافه يهتم ويتكلم في أمر العامة وظهوره من علامات الساعة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

سيأتي على الناس سنوات خداعات ، يصدق فيها الكاذب ، ويكذب فيها الصادق ، وبؤتمن فيها الخائن ، ويخون فيها الأمين ، وينطق فيها الرويبضة ، قيل وما الرويبضة ؟؟ قال : الرجل التافه يتكلم في أمر العامة.

ويظهر من هذا الحديث أنه سيحدث في آخر الزمان اختلال في القيم والمفاهيم بين الناس ، وسيختفي أهل الخير ، ويظهر الفساق والأشرار والفجار والتافهون والحقراء فيتكلمون في أمر العامة يحكمون ويعزلون ويولون من شاءوا ، وهذا واقع في بعض المناطق والدول ، والطامة الكبرى أن كثير من الناس يقفون معهم ويدافعون عنهم.

وقال بعض العلماء ومنهم أبن منظور ( 630 ـ 711 هـ / 1232 ـ 1311 م ) عن الرويبضة : هو العاجز الذي ربض عن معالي الأمور ، وقعد عن طلبها ، والغالب أنه قيل للتافه من الناس لربوضه في بيته ، وقلة انبعاثه في الأمور الجسيمة ، أما الأزهري ( 282 ـ 370 هـ / 895 ـ 980 م ) فقال : إن الرويبضة هو الذي يرعى الغنم ، والغالب أنه قيل للتافه من الناس.

والخلاصة أنه إذا لم يتم بناء الإنسان تنهار الدولة والمجتمع ، ويتم بناء الإنسان عن طريق أن يتولى أمر الحكم رجل صالح وصادق ووطني ثم يسعى هذا الرجل ـ الحاكم ـ إلى إصلاح الناس وتنشئتهم وتهيئتهم عن طريق القانون والعدل.

إن حضارتنا الإسلامية العظيمة التي مصدرها ديننا الإسلامي حققت أروع ما يطمح إليه الإنسان من حرية وعدالة وشفافية.

والحل لإصلاح الناس والدولة كما قلنا هو أن يتولى الأمر أهل الصلاح وأهل الخير أولاً بمعنى الكفاءات أصحاب القدرات ، وتطبيق القانون على الجميع وتحقيق العدالة والشفافية والديمقراطية بمعنى الحكم الرشيد وتنشئة وتهيئة الناس بعد ذلك لخلق شعب واعي مثقف قادر على الاختيار والتمييز بين الصالح والطالح ، وكل تلك الأشياء موجودة في ديننا الإسلامي فنحن سبقنا الغرب في كل شيء.

فلو تولى الثوار ( أقصد الصالحين منهم ) حكم البلاد منذ البداية عن طريق تأسيس مجلس عسكري مكون من كل المناطق ، وعملوا بعد ذلك على تهيئة الناس وتنشئتهم وتوعيتهم عن طريق التعليم والإعلام بجميع أنواعه وائمة المساجد لصلح أمر البلاد والعباد ولسارت الأحوال على أحسن حال ، ولقطعوا الطريق على الغرب وعلى كل المتآمرين.

ولله في خلقه شؤون …..

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. محمود المعلول

كاتب وباحث ليبي

اترك تعليقاً