السلفية وأجندتها الخفية في ليبيا

السلفية وأجندتها الخفية في ليبيا

اختفى وزير الداخلية واختفى وزير الخارجية!

وتصدّى وكيل وزارة الداخلية للكلام بلهجة اتّسمت باللامبالاة، وكأن الامر لا يعنيه أو كأنه سعيد بما حدث. فالتمس للمهاجمين الحجج واختلق لهم الاعذار وتعاطف معهم وقدّمهم للرأي ألعام وكأنهم ضحايا لإهانة لحقت بهم قال إنها بسبب فيلم مسيء للرسول الكريم. وقال إن المظاهرة كانت سلمية ثم انحرفت إلى مسارها العنيف لان حرس القنصلية الامريكيين بدأوا المتظاهرين بإطلاق النار، ونفى التهمة عن الفاعل الحقيقي ونسبها لأزلام النظام القديم. وقال إن الدولة الامريكية مسئولة عما حدث، حينما سمحت بالإساءة إلى مشاعر المسلمين. كما أن القنصلية كانت تتوقع مسبقا حدوث هذا الامر، فلم تستعد له!

والخلاصة التي يصل إليها أنه لا يمكن لاحد أن يلومنا على تخاذلنا، ولا أن يلوم المهاجمين على جريمتهم، لان الامريكيين هم السبب وعليهم أن يتحملوا نتيجة أعمالهم! فهم الذين بدأوا بإطلاق النار، وهم الذين كانوا يتوقعون ما حدث، فلم يتصرفوا، وعندما شب القتال لم يهربوا!

ووكيل الوزارة كاذب فى كل ما لم يَقُل. وليس بين موظفي السفارة أو القنصلية أو مقر أي بعثة أجنبية مقيمة فى ليبيا جندي يحمل سلاحاً، وموظفو الامن المتواجدون فى هذه المؤسسات الدولية مسئولون عن النظام وعن تأمين المتواجدين فى المبنى وإرشادهم إلى مخارج خلفية للخروج فى حال الطوارئ. والمسئول عن حماية هذه المباني وتأمين حياة أفرادها هو قوى الامن الليبية الى كان يفترض تواجدها أمام المبنى, والتي يُفترّض أن توفر لضيوفها الحماية الامنية الكافية تنفيذاً لـ”اتفاقية فيينا” ولقواعد التمثيل الدبلوماسي.

والجناة الحقيقيون هم “جماعة أنصار الشريعة” التي تتعاطف الدولة معها وتكلّفها بمهام أمنية متعددة من بينها أمن مستشفى بنغازي الرئيس. وليس من قبيل المصادفة أن تتم هذه العملية الاجرامية بالتزامن الدقيق مع محاولة اقتحام السفارة الامريكية بالقاهرة وأن تتم فى ذكرى 11 سبتمبر، وأن تتم بعدما أعلن الدكتور الظواهري عن مقتل “حسن محمد الفايد” أو “أبو يحيى الليبي”، القيادي الكبير فى تنظيم “القاعدة”.

كما يمكننا أن ننتبه إلى الانباء التي تواردت قبل شهر رمضان عن الزيارات المتعددة التي قامت بها مجموعات من السلفية إلى نظيرتها في مصر لتبادل الرأي والمشورة والتنسيق مع إخوانهم فى الجهاد. ثم نضيف إلى ذلك هزيمتهم فى معركة “الرجمة”، حين حاولوا تدمير أحد الأضرحة فتصدى المواطنون العاديون لهم فكشفوا ضعفهم وهزموهم.

أما ربطها بقصة فيلم “براءة المسلمين”، فهذا من قبيل التمويه، وتوجد مقاطع من هذا الفيلم على الشبكة وتم بثها منذ ما يزيد عن شهرين، كما أن الفيلم يسئ إلى مشاعر المسلمين جميعا، فلماذا يخصون أنفسهم بالانتقام وحدهم، وكأنهم ورثة الدين وحماته؟ ولماذا يوجهون عضبهم إلى أبرياء لا ذنب لهم ولم يسيئوا للاسلام بأي كلمة؟

والذى أنتج الفيلم كان يخطط بعناية لما يريد ويقصد منذ البداية أن يثير المسلمين كما حدث مع “سلمان رشدي” الانجليزي ورسام الكاريكاتير الدنماركى وقميص كالديرونى الايطالي، وما تبعه من أحداث. وهو يقصد أن يدفعهم إلى هذه التشنجات العصبية المريضة التي تضر بالاسلام أكثر كثيرا من نفعها له.

والنتيجة أن ليبيا فقدت واحدا من أكثر الدبلوماسيين الامريكيين تفهّما للليبيين وتضامنا معهم، وهو أول من ساعد فى تقديم العون والمساعدة لهم. وهو أول سفير أمريكي يقتل فى مكان عمله بعد Adolph Dubs سفير أمريكا فى أفغانستان سنة 1979.

إسمه جون كريستوفر ستيفنز، يتكلم العربية بطلاقة، ويفهم عادات الليبيين، وله صداقات عديدة مع وهذا شخصيات ليبية مهمة وغير مهمة وأفراد عاديين، عمل دبلوماسيا بسفارة بلاده فى طرابلس بين عامي 2007 و2009، ثم عاد إلي ليبيا كأول مبعوث أمريكي يرفع علم الثورة. وصل إلى بنغازي فى أبريل 2011 على متن سفينة شحن يونانية تحمل فريقه الدبلوماسي وحراسه وسيارات ومعدات ليقيم أول مقر للبعثة الامريكية وسط ثورة مشتعلة لم تُحسَم معاركها بعد، يبدأ نشاطه مع الثائرين. و تعرّض لمحاولة قتل فى 5 يونيو الماضي عندما انفجرت قنبلة على مدخل السفارة، لكنه استمر فى عمله وأنجز مهمته، فعينه الرئيس أوباما أول سفير لبلاده بعد الثورة تقديراً لما قام به من مجهودات!

وعلى عكس ما يدعيه وكيل وزارة الداخلية، فإن العملية الارهابية لم تكن نتيجة الشرف الجريح ولا ردّاً على كرامتهم المهانة. بل كانت عملية معدَّة مسبقاً، ومبنية على معلومات دقيقة، وتمّت وفقا لخطة عسكرية استُخدمت فيها فنون الخداع والمناورة.

انطلق المهاجمون، كما يروي شهود عيان، من قاعدة قريبة تبعد عن موقع القنصلية كيلومترات قليلة يستقلون ثلاثين سيارة ويُقدَّر عددهم بخمسين شخصا. كانوا منظمين بصورة جيدة ومزودين بأسلحة مناسبة لمهمتهم وأطلقوا صواريخهم فى تصويب دقيق على أهداف محددة فى توقيت مباغت وسريع.

بدأ الهجوم على مرحلتين، الأولى فى الساعة العاشرة ليلا بإطلاق النار على القنصلية. وفر كل من فيها إلى مبنى آخر، ولم يبقَ فى المقر الرئيس إلا السفير وإثنين من مساعديه. وبعد ربع ساعة، ولما ملأ الدخان المبنى وتعذرت الرؤية بداخله، بدأوا المرحلة الثانية من الهجوم: دخلوا القنصلية وأشعلوا فيها النار، ثم حملوا السفير وخرجوا به ويبدو أنهم حاولوا اختطافه. ولم يعثر عليه أحد إلى أن سلموه فى المطار جثة لا حياة فيها مدّعين أنه مات مختنقا.

ولما غادر الغزاة المبنى، استغل اللصوص والغوغاء الفرصة، واقتحموا المكان ونهبوا كل ما فيه بإعتباره “غنيمة حرب” من “عدو كافر”! ولم يتأخروا في تفريغ محتوياته وتجريده من كل ما فيه ولم يتركوا مسمارا واحدا. كل هذا وأجهزة الامن غائبة!

ترك المهاجمون وراءهم أربعة قتلى وستة جرحى، وارتكبوا الخطأ الاكبر وخسروا كل شئ. والرابح من كل هذا هو العدو يعبث بهم ويحركهم بأصابعه الخفية. وحين ظنوا أنهم يحاربوه، فإنهم اندفعوا بغباوة شديدة يدمرون أنفسهم من أجل أن يحققوا له أهدافه! ويكفي أننا الآن، فى نظر الغرب، إرهابيون متعصبون جهلة!

وسيندمون كثيرا على ما فعلوا، وفى الحديث القدسي “لا تنظر إلى صغر خطئك، لكن أنظر إلى العظيم الذى أخطأت فى حقه”. وماداموا قد بدأوها بحرب، فليحتملوا نتائجها، وهم الخاسرون ولا محالة. لكننا ملزمون أن نشاركهم الخسارة بالرغم منا، والدولة الليبية مسئولة عن كل الدمار الذى أحدثته هذه الفئة، وهى المسئولة عن الارواح التي أُزهِقَت وسنسمع قريبا عن التعويضات المطلوبة، وتجربة “لوكربي” التي قدّرت دية المواطن الامريكي بعشرة ملايين دولار ما تزال حية فى الذاكرة!

سترسم هذه الحادثة، ولا شك، خطاً مهماً فى تاريخ الثورة الليبية، وتنبه إلى الخطر القادم والدمار الشامل الذى يحمله تيار الاسلام السياسي إلى ليبيا والليبيين. ولا فارق هنا بين معتدل منهم، ومتطرف. فكلهم يحمل لنا، نحن عامة المسلمين، الهزء والتحقير، ويحمل للغرب الكراهية والعداء. لكن العاقل منهم يقر بضعفه أمام القوة الهائلة والحضارة الغربية المكتسحة. فيطيعهم مضطراً، كما يقول لهم الفقهاء، بطاعة أهل الكفر ما داموا متمكنين من دار الاسلام. ولو كانوا منصفين، لقدّروا الدور الذى لعبته أمريكا ودول التحالف فى إنقاذنا من عدوٍ شرس كاد أن يكون القدر المدمر الذى أوشك أن يفنينا. وحين تمردنا عليه، وهتفنا ضده، تُركنا لأنفسنا، فلبثنا فى العذاب إثنين وأربعين عاما وكأننا الجن فى حِكم سليمان. لكننا، للاسف شعب مارق لا يحمل ذاكرة ولا يعترف لاحد بالجميل. وتبقى كراهيته للغرب وشكًه فى نواياه متأصلة فيه تنتقل من جيل إلى جيل، وكأن الغرب هو المسئول عن كل ما يلم به من عجز وجهل وتخلف.

فآلى أين مضت بنا الحياة فى ليبيا، وأي مستقبل ينتظرنا ونحن نعيش فى دولة مفككة تعتبر الان من أسوأ عشر دول فى العالم؟

والجواب المؤسف أن كل ما سوف يكون لن يعتمد علينا بل يعتمد على ما يريده الغرب الملحد لنا لانه هو الذى يحكمنا ويتحكم فى مصائرنا دون أن ندري، ولو منع عنا الطعام والعلم والدواء لعُدنا إلى الخلف نركض خلف الخف والحافر حتى تصدنا حيوط السودان والنيجر وتشاد ونعيش عبيدا لمن كنا نظنهم عبيدا!

أختتم أخيرا ببيتين للمتنبي

إذا ساء فعل المرء سائث ظنونه وصدق ما يعتـــــاده من توهم
وعادى محبيه بفــــــــعل عداته وأصبح فى ليل من الشك مظلم

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

اترك تعليقاً