السياسة.. والتاءات الثلاث (2 من 3)

السياسة.. والتاءات الثلاث (2 من 3)

ا.د. محمد بالروين

أستاذ العلوم السياسية وعضو الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور

حاولت في الجزء الأول من هذا المقال الإشارة إلى العناصر الضرورية الثلاث التي تتطلبها العملية التسويقية في السياسة، أي ما أطلقت عليه “الثاءات الثلاث”.

وسلطت بعض الضوء على “التاء الأولى” ألا وهي “التموضع“.

في هذا الجزء سأحاول مناقشة “التاء الثانية” أي “التغليف“.

ثانيا: التغليف (Packaging)

التغليف – في السياسة – هو علم وفن وتقنية عرض الأفكار والمشاريع والبرامج وكيفية استخدامها وإقناع المواطنين (المُستهدفين) بها بأسلوب بسيط وجذاب، بمعنى آخر، هو الطريقة التي يتم بها وضع وعرض وتسويق الأفكار والمشاريع والبرامج.

يقوم التغليف على أساس عملية تصميم وإخراج الأفكار والمشاريع والبرامج بالشكل المناسب والمطلوب، ويهدف بالدرجة الأولى إلى تحقيق الجاذبية المرئية والشكلية، ويساعد على الوصول للمواطن بأكثر وأقصر الطرق الممكنة، ويلعب دورًا حيويًا في تحريك مشاعر المواطنين وجعل الأفكار والمشاريع والبرامج جذابة ومؤثرة (إيجابياً أو سلبياً) على سلوكياتهم وخياراتهم.

فعلى السياسي أن يعي أن هناك جانب عاطفي لعرض أفكاره ومشاريعه وبرامجه، وأن المواطنين، في أغلب الأحيان، لا يدركون درجة وأهمية عواطفهم في اختيار (أو رفض) الأشياء التي يريدونها إلا بعد أخذ قرارتهم، وعليه على السياسي إدراك هذه الحقيقة والعمل على تسخيرها لإقناع وتوجيه المواطنين للهدف الذي يرغب في تحقيقه، وأن يدرك أن الناس بطبعهم يميلون، في البداية وبسرعة لقبول (أو رفض) الأشياء عاطفياً تم يقوموا بتبريرها عقليا ومنطقيا بعد اتخاذ القرار.

والسؤال المهم هنا هو كيف يمكن تحقيق ذلك؟ في اعتقادي، يمكن للسياسي تحقيق ذلك باخذ العوامل الآتية في الاعتبار:

أولا: التموضع (Positioning) – أي على السياسي أن يحدد – قبل أي شيء آخر – أفضل تموضع (أو إعادة تموضع) له، وعليه أن يتذكر بأنه في النهاية، كما يقول المثل: “سيقف المرء أينما هو جالس”.

ثانيا: التبسيط (Simplification) – أي عملية جعل الأفكار والبرامج والمشاريع أبسط وأسهل للفهم والتطبيق، بمعنى على السياسي القيام بعرض أفكاره وبرامجه ومشاريعه بطرق واضحة ومفهومة للجميع، وأن ينطلق دائما من مبدأ “عدم تعقيد المبسط”.

ثالثا: التأطير (Framing) – أي النِطاق أو الهيكل العام الذي يُحدِّد معالم الشكل أو الموضوع لأفكار وبرامج ومشاريع السياسي، بمعنى على السياسي أن يسعى لاختيار التأطير المناسب لأفكاره لكي يؤثر في خيارات المواطنين الخاصة بهم، بمعنى عليه اختيار العملية التي يضع بها أفكاره وبرامجه ومشاريعه من منظور معين وفي “أطر” محددة، لكي يتم إعطاءها شكل ومعنى واضح يمكن من خلاله فهمها بسهولة وبشكل أفضل، بمعنى آخر، على السياسي أن يدرك أن التأطير هو جزء مهم وضروري لا مفر منه للتواصل مع المواطنين (المستهدفين).

من هذا الفهم، يمكن القول إن أي سياسي يرغب في تسويق أفكاره وبرامجه ومشاريعه عليه أن يتذكر أن هناك شيء أكثر أهمية من “الفكرة” نفسها، ألا وهو الأسلوب الذي تُعرض أو تُسوق به، بمعنى على السياسي أن يتذكر أنه لتغليف فكرته ومشروعه وبرنامجه التأثير الأكبر على قرار المواطنين (المستهدفين) عندما يتعلق الأمر بالاختيار أو الرفض، وذلك لأن التغليف المناسب والجيد يساعد على إعطاء إحساس بقيمة المنتج وجودته، وأنه علامة من علامات النجاح، بمعنى آخر، على السياسي أن يدرك أن التغليف هو عملية بالغة الأهمية لتسويق الأفكار والمشاريع والبرامج، حيث يمكن لتصميمها أن يجذب انتباه المهتمين ويجعلها تبرز وتتميز على أفكار وبرامج المنافسين الآخرين.

ولعله من المناسب أن اختم هذا الجزء من المقال بالاستدلال بمثال بسيط يوضح دور التغليف وأهميته في بيع وتسويق أفضل وأحلى وأكثر أنواع الحلويات الشعبية في العالم ألا وهي الشوكلاته، وهنا يمكن القول إن الشوكولاته – في الأصل – هي “شوكولاته، شوكولاته، شوكولاته” وهي من الحلويات المفضلة لدى فئات كبيرة من الأطفال والكبار، وأن الفرق الرئيسي الذي يمييز بين أسعارها المختلفة والرغبة في شراء بعضها دون الآخر هو – بالدرجة الأولى – الأساليب والطرق التي يتم بها تغليفها في المناسبات (كالأعياد والأفراح) التي تُعرض من أجلها، واستعداد الناس للشراء (حسب المناسبة) نفس النوع من الشوكولاته بأسعار مختلفة وفقاً للأطر والكيفية التي غُلفت بها ومن أجلها، وعليه يمكن استنتاج أن فن التغليف هو السرًّ الأول والأساسي الذي يُحدد الأسعار المختلفة للشوكلاته والرغبة في شرائها! فهل يختلف عرض وبيع الشوكولاته في الأسواق التجارية عن عرض وبيع الأفكار والمشاريع والبرامج في الأسواق السياسية؟!!.. أنا شخصياً، لا اعتقد ذلك.

الخلاصة

يجب على كل من يريد أن يتعاطى السياسة أن يهتم بعملية تغليف أفكاره ومشاريعه وبرامجه لأنها مرحلة مهمة في العملية التسويقية، وضرورية لفوزه وتحقيق أهدافه، وعليه أن يدرك أنها أداة قوية للتأثير على الرأي العام في القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية وكسب الأنصار والمؤيدين الجدد.

في الجزء الثالث والأخير من هذا المقال بإذن الله سوف أحاول تسليط بعض الضوء على “التاء الثالث” التي تتطلبها العملية التسويقية في السياسة، ألا وهي “التوقيت”.

يتبع.. والله المستعان.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

ا.د. محمد بالروين

أستاذ العلوم السياسية وعضو الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور

اترك تعليقاً