السياسة.. والتـاءات الثـلاث (1 من 3)

السياسة.. والتـاءات الثـلاث (1 من 3)

ا.د. محمد بالروين

أستاذ العلوم السياسية وعضو الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور

في البداية، يمكن القول إن للسياسة سوق كغيرها من الأسواق، يقوم على أساس الربح أو الخسارة، وعلى كل من يريد أن يذهب لهذا السوق أن يتقن العملية التسويقية لعرض أفكاره ومشاريعه وبرامجه، وأن يدرك أن هذه العملية تبدأ منذ بداية العرض إلى قبول (أو رفض) المشترين لها، وهذا يعني أن السياسي يحتاج، بالدرجة الأولى، إلى استراتيجية تسويقية، وأن يدرك أنها ضرورية ومُلحّة ولا يمكن الاستغناء عنها في تحقيق أهدافه بدونها، وبالتالي عليه أن يتقن أهم العناصر التي تتطلبها هذه الاستراتيجية والتي لعل من أهمها ما سأطلق عليه: التاءات الثلاث:   

تموضع.. وتغليف.. وتوقيت.

أولا: التموضع (Positioning)

التموضع في أغلب النشاطات هو عبارة عن التمركز المناسب، وللبحث عليه حاولت نظريات التموضع الإجابة على أسئلة عديدة من أهمها: أين يجب أن توجد الأنشطة ولماذا؟ بمعنى كيف يمكن تحديد “أفضل موقع” للأنشطة المختلفة؟.

أما في مجال إدارة الأعمال فقد استمر البحث في أغلب مجالاتها، ففي أعمال الزراعة، على سبيل المثال، قام الخبير الزراعي جوهان فون ثونين في عام 1826 باقترح نظرية الموقع الزراعي لأول مرة، وفي عام 1909 طرح عالم الاجتماع ماكس فييبر نظرية الموقع الصناعي، وفي عام 1933 قدم عالم الجغرافيا الألماني والتر كريستالر نظرية المكان المركزي، وفي عام 1944 اقترح عالم الاقتصاد أغسطس لوتش نظرية الموقع الاقتصادي.

والملفت للنظر أن هذه النظريات اتفقت على أن هناك عناصر ضرورية لاتخاذ قرار التموضع من أهمها: (1) تقليل التكاليف لأقل شيء ممكن، (2) جذب أفضل العاملين والموظفين والاحتفاظ بهم، (3) سرعة الوصول إلى المستهدفين او المستفيدين، (4) زيادة الفوائد والأرباح إلى أعلى نسبة.

أما في المسرح السياسي، فيقصد بالتموضع المكان الذي يلتقي فيه السياسيين بالمواطنين (المُستهدفين) والمشاركين في العملية السياسية، بمعنى هو العملية التي يستخدمها السياسي لتحديد “أفضل موقع” لإيصال أفكاره ومشاريعه وبرامجه إلى المواطنين (المُستهدفين) بناءً على احتياجاتهم، والضغوط التنافسية التي يواجهها، وقنوات الاتصال المتاحة له، والرسائل التي صممها لتحقيق أهدافه.

وقد يكون التموضع عبارة عن الانطباع الذي يحاول السياسي ترسيخه في عقول المواطنين (المُستهدفين)، وإقناعهم بما يقول ويقدمه لهم من أفكار وحلول للحصول على مكان مناسب في المسرح السياسي، ويمكن النظر للتموضع أيضا على أنه عملية الانتشار في المسرح السياسي لتحقيق هدف معين بناء على معطيات استراتيجية أو تكتيكية محددة.

ولكي يستطيع السياسي الوصول إلى التموضع المناسب له، واعتباره عنصرًا مهمًا لتسويق أفكاره والدفع ببرنامجه إلى الأمام، لابد من استخدام أحد (أو كل) الاستراتيجيات الآتية لتحقيق هذا الهدف:

(1) التمايز

بمعنى العمل على جعل السياسي متميز عن منافسيه حتى يسهل اختياره من بينهم بسهولة وجعله الأفضل والأحسن منهم، وذلك بتحسين صورته ومكانته في أذهان المواطنين (المُستهدفين).

(2) المقارنة

بمعنيى السعي لتوضيح وشرح التشابه والاختلاف بين أفكار وبرامج ومشاريع السياسي ومنافسيه بناء على معايير تُفضله وتُميزه إيجابيا عن غيره.

(3) التجزئة

بمعنى قيام السياسي باقتراح برامج ومشاريع خاصة بشرائح ومكونات معينة من المواطنين (المُستهدفين)، وتقديم حلول خاصة ومناسبة لكل مكون وشريحة من هذه الشرائح.

ولنجاح هذه الاستراتيجيات (أي التمايز والمقارنة والتجزئة) لابد على السياسي أن يختار تموضعه على أساس: (أ) البرنامج – أي تقديم برنامج متميز ومتكامل وهادف ويستجيب للتحديات التي تواجه المواطنين (المُستهدفين)، (ب) الجودة – أي أن يكون البرنامج ذو نوعية عالية وجدولة زمنية محددة وواضحة، وأن يلتزم بمعايير قابلة للقياس وقابلة للتحقق، و(جـ) التكلفة – أي لابد أن تكون تكلفة هذه البرنامج ممكنة ومتاحة، وتقدم أكبر الفوائد والأرباح للمواطنين.

في الجزء الثاني من هذا المقال بإذن الله سوف أحاول تسليط بعض

الضوء على العنصر الثاني الذي تتطلبه العملية التسويقية

في السياسة، ألا وهي “التغليف”.

يتبع.. والله المستعان.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

ا.د. محمد بالروين

أستاذ العلوم السياسية وعضو الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور

اترك تعليقاً