السياسي المثقف.. إذا كانت السياسة ثقـافـة والثقافة محيط فيجب ألا يكون السياسي خارج محيطه

السياسي المثقف.. إذا كانت السياسة ثقـافـة والثقافة محيط فيجب ألا يكون السياسي خارج محيطه

ا.د. محمد بالروين

أستاذ العلوم السياسية وعضو الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور

لعل من أهم الأسئلة حول علاقة السياسي بالمثقف هي: ما دور المثقف في العملية السياسية؟ ما هي أهم الفروق بين السياسي والمثقف؟ وهل يجب على السياسي أن يكون مثقفاً لكي ينجح؟ هذه الأسئلة وغيرها تبرز عند الحديث عن علاقة السياسي والمثقف. ولكي نحاول الإجابة عليها لعله من المناسب أولا تحديد معنى الثقافة والسياسة.

أولا: الثقافة

عرف العالمان السياسيان الأمريكيان “قابرييل ألموند وسيدني فيربا” في خمسينيات القرن الماضي، الثقافة السياسية على أنها “مواقف الناس وآرائهم وقيمهم ومعتقداتهم ووجهات نظرهم والطقوس والتقاليد والرموز والسلوكيات والمقتنيات المشتركة التي يستخدمها أفراد المجتمع للتفاعل مع بعضهم البعض ومع الآخرين”، أما الأكاديمي والسياسي الأمريكي لوسيان بآي فعرف الثقافة السياسية على أنها “مزيج من القيم الأساسية والمشاعر والمعرفة التي تكمن وراء العملية السياسية”.

من هذين التعريفين يمكن القول إن القواعد والمنطلقات الأساسية للثقافة السياسية هي معتقدات وأفكار وعادات وآراء وعواطف ومشاعر المواطنين التي تُعرف وتعطى معنى للعمليات السياسية، وتمنح الضوابط والمعايير التي تحكم سلوكيات السياسيين. بمعنى آخر، هي المحيط الذي يعيش في داخله السياسي والمصدر الأساسي والضروري للسياسة، وبدونها  تصبح السياسة مجرد ممارسات فارغة وعمياء لا هدف لها.

ثانيا: السياسة

في الأصل، هي وظيفة إنسانية نظيفة ومقدسة، ولا يمكن لأي إنسان أن ينجح في حياته إلا بممارستها واستخدامها الاستخدام المناسب. هدفها الرئيسي هو خدمة النفس والآخرين وتحقيق ما يُعرف في المجتمع بــ”الصالح العام”، وتقوية الروابط الاجتماعية. وهي الطريقة التي يتخذ بها السياسيون قراراتهم. وعليه فمن الغباء تعريف السياسة تعريفاً واحدا ومحاولة إسقاطه وتطبيقه على كل الأشياء والأحوال والظروف. بمعنى آخر، السياسة، كغيرها من الوظائف الإنسانية لها وجوه متعددة، تختلف وفقاً للظروف والأزمان والإمكانيات. فعلى سبيل المثال، يعرفها البروفسور ديفد أيستون على أنها: “التوزيع السلطوى للقيم فى المجتمع” (أيستون, 1965, ص50)، وعرفها البروفسور برنارد كراك على أنها فى أحسن حالاتها نشاط أخلاقي للتوفيق بين الخلافات الاجتماعية والاقتصادية، ولبناء حكم بدون فوضى واستبداد وعنف (كراك, 1962)، وعرفها البروفسور هانس مورقنتو، أحد أقطاب المدرسة الواقعية السياسية، وصاحب كتاب السياسة بين الدول: الصراع من أجل القوة والسلام, الصادر عام 1948، بأنها “الصراع من أجل القوة والتأثير، والقوة بالنسبة له تعني العلاقة النفسية بين الذين يمارسونها والذين تُمارس عليهم، وإن الهدف الأساسي للقوة هو تحقيق المصلحة العليا للدولة”(مورقنتو 1973, ص28). ومن زاوية أخرى، يمكن النظر للسياسة على أنها “لعبة القوي” التي يضع قواعدها الأقوياء ليفوزوا. بمعنى الكل فيها يسعى للفوز دائما، فحتى الأغبياء عندما تتاح لهم فرصة وضع قواعدها، يقوموا بذلك ليفوزوا، ولكنهم ينهزمزا لأنهم أغبياء ليس إلا! ومن هذا الفهم، كان ريتشارد نيكسون، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية السابع والثلاثون (1969 – 1974)، يقول “يجب أن نلعب اللعبة كما صممناها، ويجب أن يلعبوها كما نريدها نحن”. وهنا يمكنني أن أضيف تعريف آخر للسياسة على أنها فن إدارة ماذا وكيف ومتى؟ بمعنى ماذا يريد السياسي؟ وكيف سيقوم بذلك؟ ومتى سيحققه؟.

الفروق بين السياسي والمثقف

لعل من أهم الفروق:

1. السياسي سلاحه القوة وادعاء المعرفة، بينما سلاح المثقف القلم والأفكار والرؤى.

2. السياسي يتعامل مع الواقع والأحداث حوله وفقا لمصالحه، أما المثقف فيحمل رؤى للمستقبل، وينظر لما ينبغي أن تكون عليه أمور الدولة والمجتمع.

3. السياسي شخص متخصص في إدارة شؤون الدولة، أما المثقف فمفكر ومحلل للظواهر الاجتماعية وناقد للسلوكيات السلبية، وساعي إلى نشر الوعي من أجل الوصول إلى مجتمع أفضل، ومنتج للأدب والفنون، ويمكن اعتباره صوت الأمة وضميرها النابض.

علاقة السياسي بالمثقف

أغلب المفكرين والسياسيين ينظرون للعلاقة بين السياسي والمثقف على أنها مُعقدة ومُركبة ومضطربة! والحقيقة أن علاقة المثقف بالسياسي تتراوح بين تبعية المثقف للسلطة في أغلب الأحيان، أو معارضته لها، أو عزوفه عن الخوض في الشأن السياسي في أحيان أخرى. ولكي يتم فهم هذه العلاقة، لعله من المناسب ذكر أهم معالمها:

أولا: إذا كانت السياسة هي طريقة إدارة شؤون البلاد، فإن الثقافة هي المحرك لإدارتها وأبرز أدواتها، وعليه يجب ألا يكون المثقف خارج هذه المعادلة لارتباطه العضوي والوثيق بالثقافة، وبذلك يمكن اعتبار المثقف والسياسي وجهان لعملة واحدة.

ثانيا: إذا كان السياسي يتعامل مع الواقع والأحداث الجارية حوله، وإذا كان المثقف يحمل رؤى مستقبلية وينظر لما ينبغي أن تكون عليه الأمور، فعلى السياسي أن يستعين برؤى المثقف وأن يعمل وفقا لما يطرحه من مقترحات لتشكيل الحياة المستقبلية.

ثالثا: إذا كانت الثقافة تزدهر بمقدار درجة الحرية المتوفرة لها، فعلى السياسي أن يوفر المناخ الملائم للمثقف، وعليه الاعتراف بعمل المثقف الملتزم بقضايا الوطن ومنظومته الأخلاقية المتحضرة.

رابعا: ينبغي أن يكون دور المثقف الأساسي ترشيد التغييرات المستقبلية وتوجيهها نحو الاتجاه الصحيح لبناء مجتمع واعي ومثقف.

خامسا: على المثقف أن يفكر في إطار الدولة باعتبارها مكوناً جامعاً لأبناء الشعب، وأن يكون همه الأساسي تصحيح الاختلالات ومواجهة التحديات. وعلى السياسي التفكير في إدارة هذه الدولة بنجاح والعمل على تقوية مؤسساتها وحمايتها.

سادسا: لكي تنجح العلاقة بين المثقف والسياسي لابد من وضوح معالم الطريق وقواعد اللعبة. بمعنى لابد من التوافق على الاحتكام للقانون، والفصل بين السلطات، والتداول السلمي على السلطة، وسيادة الشعب، وحماية الحقوق والحريات.

الخلاصة

لقد أصبح من الضروري، في هذا العصر، فهم العلاقة بين المثقف والسياسي لأنها مهمة وضرورية لبناء وتطوير أي دولة، والمساعدة في فهم تركيبة المجتمع وتماسكه. وكما ذكرت أعلاه، يمكن القول إن السياسة ثقـافـة، وأن الثقافة محيط، ولا يُعقل أن يكون السياسي خارج محيطه. فالثقافة تشرح سلوكيات وتنوع وجهات النظر، وتجعل أفعالًا معينة أكثر أو أقل قبولا من غيرها. كل هذا يقودنا إلى ضرورة وجود علاقة قوية وإيجابية بين السياسي والمثقف. بمعنى من الضروري أن يقوم السياسيين بأخذ أفكارهم ومشاريعهم من المثقفين الذين يشتركون معهم في الثقافة، وأن يحرص المثقفين على الاقتراب من السياسيين حتى تتحول أفكارهم ومشاريعهم المشتركة إلى واقع عملي ملموس. بمعنى لابد من اقتناع السياسي والمثقف بأنه لا غِنى لأحدهما عن الآخر، وبشرط ألا يُبعد المثقّف عن مجاله، وألا يسعى السياسي لاستغلاله، لأن دور المثقف ضروري لوضع التصورات المستقبلية لتحقيق النمو والتقدم، بمعنى آخر، يجب أن تكون أفكار المثقف الأطر المرجعية لأعمال السياسي، وأن يكون المثقف مخلصا لمبادئه قبل أن يكون مخلصاً لرغبات الآخرين.

في الختام، لعله من المناسب القول، إن السياسة هي منتج من منتجات الثقافة، وأن ما يحتاجه أي مجتمع يريد التقدم (وخصوصا مجتمعنا الليبي هذه الأيام)، هو أن يُدير شؤون دولته ويتولى قيادتها “سياسي مثقف” يفقه ثقافات شعبه، ويُدرك مكونات محيطه، وقادر على جمع الفرقاء حوله، وعالم بأن العلاقة بين الثقافة والسياسة هي عملية تكاملية وضرورية للنجاح والازدهار، وأنها مكون رئيسي لتأسيس دولة مدنية ديمقراطية وعادلة… أدعو الله أن يتحقق ذلك في وطني قريباً.

أخيرا، لا تنسوا يا أحباب، أن هذا مجرد رأي،

فمن أتى برأي أحسن منه قبلناه،

ومن أتى برأي يختلف عنه احترمناه.

والله المســـتعـان.

========

المرجع:

Gabriel A, Almond and Sidney Verba, (1963), The Civic Culture: Political Attitudes and Democracy, Center for International Studies, Princeton University, Published by: Princeton University Press:  …  https://www.jstor.org/stable/j.ctt183pnr2

Lucian W. Pye, Political Culture Revisited, Political Psychology Journal. Vol. 12, No. 3 (Sep., 1991),  pp. 487-508, Published By: International Society of Political Psychology.

David Easton, (1965) “A Framework for Political Analysis” (Englewood Cliffs: Prentice-Hall).

Bernard Crick (1926) “In Defense of Politics. (Chicago: University of Chicago Press) chapter 1.

Hans Morgenthau (1973) “Politics among Nations: the struggle for power and peace.” 5th. edition.      New York: Alfred A. Knopf Publisher.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

ا.د. محمد بالروين

أستاذ العلوم السياسية وعضو الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور

اترك تعليقاً