العبث

العبث

د. عيسى بغني

أكاديمي مهتم بالشأن الليبي

كل يوم تتوالى مشاهد العبث ممن يتصدر الشأن الوطني العام، أمام مرمى ومسمع الليبيين والعالم أجمع، تنم عن قصر النظر، وضيق الأفق، وتدفعها الأنانية البغيضة أو الجهوية النتنة،  فكما يقول الإمام الشافعي

كن حليما اذا ابتليت بغيظ …. وصبورا اذا اتتك مصيبة
فالليالي من الزمان حبالى …. مثقلات يلدن كل عجيبة

 من صور العبث القتال في الجنوب الليبي والذي يشبه كثيراً حرب الصومال، فالجنوب يعاني الفقر ونقص السيولة والكهرباء والوقود وضيق ذات اليد، يضاف إلى ذلك زج قوات الكرامة بوكلائها من ضباط العهد السابق مثل بن نايل وسحبان وكنة للدخول في حرب طاحنة يتم من خلالها رفع راية الكرامة في الجنوب مقابل إدماجهم في السلك العسكري والتغاضي عما إقترفوه إبان الثورة في 2011م. أما أهل الجنوب فلهم الله، فقد تقطعت بهم السبل حيث توقف الشريان الوحيد المغذي لهم بالوقود والأدوية وإلإحتياجات اليومية من الشمال الغربي ولم يسد الرمق الجنيه الروسي المحمول جواً.

حرب الجنوب لم تكن سوى محاولة لتمويه الخسائر الفادحة في الأرواح والممتلكات في بنغازي، (عشرة ألاف قتيل وستة عشرة ألف حالة بثر حسب تصريح رئيس لجنة  الصحة بمجلس النواب) مع إستحالة تحرير الكيلومترات الأربعة  الأخيرة في الصابري، فكانت البهرجة الإعلامية، الإستلاء على ألاف الكيلومترات القلية السكان في الجنوب والإدعاء بان إقليم فزان تحت إمرة الكرامة و”الجيش العربي الليبي العظيم”، وأنه السد المنيع أمام المهاجرين الأفارقة من الجنوب، وهي ورقة مساومة لا تنطلي على الدول الغربية عند مغازلتها مستقبلاً، كما لم يُجدى نفعاً إدعاء الكرامة بمحاربة الإرهاب سابقا.

لا شك أن القبضة الأمنية والحل العسكري لا فائدة منه، ولن ترى بنغازي إستقراراً بالوجوه الحالية؛ سوى العسكرية أو كثلة السيادة الوطنية المتواطئة معها، فالحل العسكري لم يستطيع حل مشكلة ايرلندا الشمالية ولا الأكراد في جنوب تركيا ولا أهل سينا في مصر،  ولا فطاني في عمان ولا جنوب السودان، فالمشاكل الأيديولوجية والحروب الأهلية تحل بالتفاوض والعدل ورد المظالم ولن تحل بسياط العسكر، وقد تظهر إنعكاسات ومشاكل إجتماعية أخرى فتاكة ناتجة عن القبضة الأمنية مثل ما نرى من الموت بسموم الحناء وإنتشار المخدرات والمؤثرات العقلية والإنتحار، وفي ظل تكميم الأفواه يتم نشر وتبرير الأمور بأسباب واهية مثل لعبة تشارلي المسئولة عن إنتحار الشباب.

هذا العبث وجد صدى له عند رئيس مجلس النواب الذي لم يعد يثق في الدول العربية ولا مصر ولا الغرب بعد الإعتراف بالمجلس الرئاسي في مؤتمر القمة في عمان ومؤتمر الدول السبعة الكبرى، فأسرع متجها إلى الجنوب؛ إلى غنيا كوناكري التي لها العصاء السحرية لحل الأحجية الليبية، ورئيس غنيا بدوره قام بالواجب بدعوة رئيس المؤتمر الوطني أبوسمين المستقيل لزيارته والإجتماع معه لأجل إحياء إجتماع مالطا 2، العبث الذي لم يتم الكشف عنه من وسائل الإعلام أن عقيلة بعد عودته كان من المتوقع أن يجتمع بمجلس النواب بكامل إعضاءه ويطلعهم عن نتائج الزيارة لكوناكري، ولكنه فضل الإجتماع ببعض أعيان ووجهاء القبة وإطلاعهم عن سفره الأخير إلى غرب أفريقيا وترحمه على الحاج أحمد سيكيتوري صديق معمر القذافي، وكان التأييد كاملاً لهذه المبادرة.

عبث آخر أكبر يتمثل في قرار مجلس النواب لتغيير المناصب السيادية في الدولة مثل محافظ مصرف ليبيا المركزي، في حين أنه لم يقوم بتضمين الإتفاق في الدستور، وكما يعلم القاصي والداني أن مجلس النواب يصبح في حكم العدم إذا لم يضمن إتفاق الصخيرات في الدستور، ولن  يلتزم بقراراته أحد داخليا ولا دولياً.

أما العبث المقابل من حكومة الرئاسي هو إصدار قرار بتعيين سفراء وقناصلة جدد لعدد يناهز 80 موظف هذا الأسبوع، ففي حين أن كل الدراسات والمؤشرات من ديوان المحاسبة ومن المصرف المركزي ومن المتابعين للشأن العام ينادون بخفض رواتب الوزراء والمستشارين وبتقليص عدد الموظفين والسفارات بالخارج من  أجل معالجة الأزمة الإقتصادية، نجد وزارة الخارجية تتمادي في تعيين موظفين جدد لا خبرة لهم ولا علاقة لهم بالسلك الدبلوماسى، والأنكى من ذلك إختيارهم على أسس قبلية وجهوية منشورة في قوائم القرار وهو أسلوب مُخل بالمهنية ويدل على الإبتزاز أو صناعة التأييد الجهوي الرخيص.

توجد لليبيا سفارات في 140 دولة لكل منها 20 إلى 40 موظف تابعين للخارجية وعدد غير قليل من الملحقين منهم الملحق العسكري والثقافي والصحي والتعليمي وغيرهم، أي جيش جرار يستنزف مقدرات الدولة دون حاجة لهم، وفي دول لا أهمية إقتصادية لها ولا يطأها معظم الليبيين مثل مورشيوس وغانا وبوركينا فاسو وبنين وأغندا والأرجنتين وفنزويلا وعدد غير قليل في أستراليا وإندونيسيا والفليبين، إنه  إهدار للمال العام بحق في دولة لا قيادة راشدة لها.

إطالة الصراع في ليبيا له مكاسب شخصية كثيرة لم يحلم بها الكثير ممن يتصدر الشأن الليبي الذين  قال عنهم كريستوفر واينر المبعوث الأمريكي إلى ليبيا الأسبق “بأنني قد إجتمعت مع الكثير من الساسة الليبيين ولساعات طويلة ولم أرى تخلفا مماثلا في حياتي فهم كثيرو الكلام قليلو العمل”، هؤلاء منهم من يتمتع بالمزايا والمهايا الحالية دون عمل يذكر سوى الظهور على الفضائيات بين الفينة والأخرى للحديث عن شرعية البرلمان وإنتهاء ولاية خصومه، ويُجهز نفسه للحاق بالسفارات بالخارج حالما إنهار البرلمان على نوابه، أما من وصل به العمر عتيا فينتظر إنقضاء ثلاثة سنوات حتى يتم تثبيت تقاعده على مرتب يفوق ستة عشرة ألف دينار شهريا من الضمان الإجتماعي وفي ذلك كله خير، “وللغلابا ربا يحميهم”.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. عيسى بغني

أكاديمي مهتم بالشأن الليبي

اترك تعليقاً