العقوبات على روسيا قد تُسبب ركودا اقتصاديا غير مسبوق!

العقوبات على روسيا قد تُسبب ركودا اقتصاديا غير مسبوق!

د. عبيد الرقيق

باحث ومحلل سياسي ليبي

بعد مضي قرابة شهرين عن بدء الحرب على أوكرانيا ما الذي يمكن أن نلاحظه من حيث التأثير على روسيا؟ وهل يمكن أن تُحقق العقوبات الهدف دون تأثيرات عكسية على الدول الأوروبية وأمريكا؟، واقعيا حيث أن نسبة اعتماد أوروبا تحديدا على بعض المنتجات الروسية مثل الغاز والنفط والحبوب والمعادن وغيرها من شأنه أن يضعف من شدة التأثير على روسيا بل والعكس ستكون النتائج كبيرة على أوروبا إذا ما طال أمد الحرب، حيث يمثّل الغاز الروسي أكثر من 40% من واردات الغاز الأوروبية وقد يؤدي توقف الإمداد بالغاز الروسي كإجراء مضاد للعقوبات الغربية إلى زيادة أكبر في تعرفة الطاقة للملايين في أوروبا، كما سيؤدي قطع موسكو عن أنظمة الدفع الدولية إلى تعقيد مدفوعات أوروبا في مقابل وارداتها من الغاز.

وبحسب مؤشر منظمة الأغذية والزراعة، زادت أسعار الأغذية بنسبة 3.9% عن مستواها في يناير، وأعلى بنسبة 20.71% من مستواها في العام الماضي، كما أن مؤشر أسعار الزيوت النباتية ارتفع بنسبة 8.5% عن الشهر الماضي ليصل إلى مستوى قياسي جديد، وكان متوسط مؤشر الأسعار لمنتوجات الألبان أعلى بنسبة 6.4% في فبراير مقارنة بيناير وارتفع مؤشر أسعار الحبوب بنسبة 3.0% عن الشهر الماضي، مدفوعاً بارتفاع عروض أسعار الحبوب الخشنة، مع ارتفاع الأسعار الدولية للذرة بنسبة 5.1%، وذلك بسبب التوترات الموجودة في أوكرانيا وعدم ضمان وصول صادرات الذرة منها، وارتفاع أسعار تصدير القمح.

قد يكون من السهل بمكان على الولايات المتحدة تصعيد عقوباتها الاقتصادية على روسيا بسبب ضآلة حجم التبادل التجاري والتبادل الاستثماري بين البلدين، لكن الوضع في الاتحاد الأوروبي مغاير، حيث يُعَدّ الاتحاد الأوروبي أكبر شريك تجاري لروسيا، إذ استحوذ على 37% من إجمالي تجارة البلاد مع العالم في أوائل عام 2020، وفقاً للمفوضية الأوروبية، وكانت روسيا أيضاً مصدر نحو 25% من واردات الكتلة النفطية، فهناك شركات أوروبية متعددة تعمل في السوق الروسية، وتوجد فيها حوالي 6000 شركة من ألماني وحدها، وتتصدر الصين قائمة الدول المستوردة للمنتجات الروسية بـ54.1 مليار دولار أميركي، تليها ألمانيا بـ25.1 مليار دولار، وبيلاروسيا 13.8 مليار دولار، بينما تحل الولايات المتحدة الأميركية في المرتبة الرابعة 13.4 مليار دولار.

إن الحرب الروسية الأوكرانية ليست مجرد حدث جيوسياسي كبير فقط، فهي أيضاً نقطة تحول جيو-اقتصادية بالنسبة للعالم كله، إذ تعتبر العقوبات الغربية ضد موسكو أشد الإجراءات التي تم فرضها على الإطلاق ضد دولة بحجم روسيا وقوتها، ففي غضون أقل من ثلاثة أسابيع، قامت الولايات المتحدة وحلفاؤها بعزل البنوك الروسية الكبرى عن النظام المالي العالمي بمنع تصدير المكونات عالية التقنية في انسجام مع الحلفاء الآسيويين، واستولت على الأصول الخارجية لمئات من الأثرياء المحيطين بالرئيس بوتين، وألغيت المعاهدات التجارية مع موسكو، كما حُظرت شركات الطيران الروسية من المجال الجوي لشمال الأطلسي، وتم تقييد مبيعات النفط الروسي إلى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وجمدت 403 مليارات دولار من أصل 630 مليار دولار من الأصول الأجنبية للبنك المركزي الروسي.

ومهم الإشارة هنا إلى حجم تجارة روسيا الخارجية حيث ارتفع حجم تجارة روسيا الخارجية خلال 2021 إلى 789.4 مليار دولار، بزيادة نسبتها 37.9% عن العام 2020، وسجل احتياطي المركزي الروسي 643.2 مليار دولار، في 25 فبراير 2022، وهو ما يعد رقمًا قياسيًا، إذ يعادل أكثر من 17 شهرًا من عائدات الصادرات الروسية، لقد كان بوتين يعمل بجد لإزالة الدولار من الاقتصاد الروسي، فبالنظر إلى عام 2013، كانت روسيا تتلقى الدولارات مقابل 95% من صادراتها إلى البرازيل والهند وجنوب إفريقيا والصين، أما اليوم وبعد عقد من إزالة الدولار، فإن 10% فقط من هذه التجارة يتم بالدولار، ولقد استبدل بوتين التجارة بالدولار بالذهب على نحو كبير، حيث راكمت روسيا من الذهب 130 مليار دولار، أو 20% من إجمالي الاحتياطيات، بعد أن كان لديها مليارا دولار فقط من الذهب في 1995.

وعلى سبيل المثال، في قطاع القمح والميسلىن، من بين أكبر سبعة مصدرين، شكلت روسيا مجتمعة 79% من التجارة الدولية في عام 2021، وتحتل المرتبة الأولى كالمُصدر العالمي للقمح، يشحن ما يقرب مجموعه 32.9 مليون طن من القمح والميسلين، أو ما يعادل %18 من حصة الشحنات العالمية، في المقابل، تُصنّف أوكرانيا كسادس أكبر مصدر للقمح في 2021، حيث بلغت صادراتها 20 مليون طن من القمح والميسلين وبلغت حصتها من السوق العالمي نسبة %10، كما برز البلدان في ساحة التجارة العالمية للذرة والشعير وبذور اللفت، وأكثر من ذلك في قطاع زيت عباد الشمس، حيث بلغت قواعد إنتاجهما الكبيرة حصة مجمعة من سوق الصادرات العالمية بما يقرب %63.

إن آثار العقوبات الغربية تتجاوز روسيا نفسها، وستضرب الاقتصاد العالمي، وتتسبب بالفعل في حدوث اضطرابات في أسواق السلع الأساسية الدولية، وبشكل عام، فقد ارتفعت أسعار النفط الخام والغاز الطبيعي والقمح والنحاس والنيكل والألمنيوم والأسمدة والذهب، ولأن الحرب سببت في أغلاق الموانئ الأوكرانية ومع تجنب الشركات الغربية الدولية صادرات السلع الروسية، سيلوح في الأفق نقص في الحبوب والمعادن على الاقتصاد العالمي،  ولذلك فإن صدمة أسعار الطاقة والسلع في جميع المجالات ستدفع التضخم العالمي إلى الأعلى، وسينعكس هذا بوضوح على البلدان الإفريقية والآسيوية التي تعتمد على واردات الغذاء والطاقة من روسيا وأوكرانيا.

ونتيجة لذلك، ردت الحكومة الروسية على العقوبات بعدة طرق، فاتخذت سياسات استقرار طارئة لحماية أرباح العملات الأجنبية ودعم الروبل، كما عملت على قفل رأس مال المحفظة الأجنبية في البلاد، وبينما ظلت البورصة مغلقة، فإن أصول العديد من الشركات الغربية التي غادرت قد تواجه مصادرة أموالها قريباً، حيث أعدت وزارة التنمية الاقتصادية الروسية قانوناً يمنح الدولة ستة أشهر لتولي الأعمال التجارية في حالة التصفية “غير المبررة” أو الإفلاس، وعليه إذا استمرت الحرب الاقتصادية بين الغرب وروسيا حتى عام 2023 بهذه الشدة، فمن المحتمل جداً أن ينزلق العالم إلى ركود غير مسبوق بفعل العقوبات، فهل سينقلب السحر على الساحر وتُعزز روسيا مكانتها الاقتصادية والسياسية أمام تراجع ملحوظ لأوروبا، أم أن العكس هو الصحيح؟!.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. عبيد الرقيق

باحث ومحلل سياسي ليبي

اترك تعليقاً