الليبيون.. وثالوث الفقر

الليبيون.. وثالوث الفقر

ا.د. محمد بالروين

أستاذ العلوم السياسية وعضو الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور

يدور مفهوم الفقر حول العوز والندرة والعسر والبؤس الذي يعيشه فرد ما في فترة زمنية معينة، بمعنى آخر، أنه الافتقار للوسائل المادية والمعرفية والمعنوية اللازمة لتلبية الحاجات الضرورية للعيش الكريم. من هذا الفهم يمكن القول، إن الفقر ليس مجرد بُعد مادي وإنما له أبعاد أخرى.

أبعاد الفقر

للفقر أبعاد عديدة تؤثر في حياة الإنسان و شخصيته وسلوكياته، لعل من أهمها الآتي:

أولا: الفقر المادي

هو الفقر الاقتصادي، أي حالة عدم وجود ما يكفي من المال أو المواد لتلبية احتياجات المرء الأساسية مثل المأكل والملبس والمأوى. بمعنى آخر، هو عدم قدرة المرء على الحفاظ على المستوى الأدنى من العيش الكريم. ولهذا فإن للفقر أسباب عديدة منها – ارتفاع تكاليف المعيشة، وانخفاض الأجور، ونقص فرص العمل، وغياب الضمان الاجتماعي، وسوء الخدمات، وانتشار الفساد.

ثانيا: الفقر المعرفي

هو النقص في التعليم والوعي والإدراك والوصول للحقائق بأساليب علمية، أو من خلال التأمل العقلاني في طبيعة الأشياء، أو الاطلاع على تجارب الآخرين والاستفادة منها. بمعنى آخر، هو الجهل المركب، أي انتشار أدعياء المعرفة الذين لا يمتلكون آليات التفكير النقدي ولا المهارات المطلوبة للبناء والإعمار. ولعل من أهم أسباب – انخفاض مستوى التعليم، وقلة المتخصصين في المجالات العلمية والفنية والتقنية. والاعتماد على المناهج النظرية والتقليدية، وانتشار معرفة الإنترنت، وعدم تطوير البنية التحتية.

ثالثاً: الفقر المعنوي

هو النقص في التربية والافتقار لكل ما يتصل بأخلاق المرء. وهو حالة ذهنية يعيشها الكثيرون و خصوصا من يملكون القوة والنفوذ. ونتج عن ذلك افتقار المرء للنزاهة والحياد والاحترام والالتزام والشفافية. والمتأمل في الوضع السياسي الليبي اليوم يمكن أن يستخلص أن جُل النخب تعيش فقر معنوي، صنعته الطبقة الحاكمة المسيطرة على المشهد السياسي باستخدام “شرعية الأمر الواقع”، وسيطرة “السلاح والمسلحين.”(للمزيد راجع: بالروين, 2022).

ثالوث الفقر

الثالوث هو شيء متكون من ثلاثة أجزاء مترابطة ومتشابكة وتتفاعل مع بعضها البعض. من هذا الفهم يمكن تعريف “ثالوث الفقر” على أنه الحالة التي تجتمع فيها أبعاد الفقر الثلاث (المادي والمعرفي والمعنوي)، وتصبح مترابطة ومتشابكة ومن الصعب فصلها عن بعض، كما هو واضح في الرسم التوضيحي الآتي:

عليه يمكن استنتاج أن المرحلة التي تجتمع فيها أبعاد الفقر الثلاث، هي أسوأ مرحلة من مراحل التخلف والانحطاط التي يعيشها شعب ما. ونتيجة هذه المرحلة دائما: الفساد والظلم والاستبداد. وبالتالي يجب النظر لهذا الثالوث على أنه “الشر” الذي يتربص بالجميع، ويقود إلى كفر الشعب بدولته وضعف الشعور بالانتماء في نفوس الكثيرون.

الخلاصة

مما تقدم يمكن استخلاص: (1) أن المواطن البسيط يعيش فقراً مدقعاً. (2) أن جُل النخب عاجزة فكرياً وعلمياً وتقنيا ومنهجياً. (3) أن الطبقة الحاكمة عثت في الأرض ظلماً وفسادا. (4) أن هذا الوضع المزري يقود أبناء الشعب لرفض أي محاولة للتغيير مهما كانت صادقة ونبيلة. و(5) أن هذا الثالوث أصبح ينتشر بسرعة بين شرائح الشعب. ولكي يتم التخلص من هذا الثالوث لابد من معالجة الإشكاليات الآتية:

أولا: التعليم

الإشكالية الأولى التي يجب حلها بعلمية وعقلانية هي “إشكالية المعرفة“، بمعنى لابد من البدء بإصلاح المؤسسات التربوية والتعليمية ومناهجها إذا أردنا بناء دولة حديثة ومتقدمة، أي لابد أن يكون العلم على رأس الأولويات مهما كلف الثمن، لأن فقدان العلم لا يعني الا شيء واحد هو انتشار واستمرار ثالوث الفقر في كل ربوع الوطن.

فلا يخفى على أي عاقل أن مستوى التعليم أصبح ضعيفاً جداً. فهل يُعقل، على سبيل المثال، إن أكثر من سبعين في المئة من خريجي المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية ينجحون “بامتياز!” وأن أكثر من تسعين في المئة من خريجي الجامعات وأكاديميات الدراسات العليا يتخرجون “بامتياز مع درجة الشرف!” وفي نفس الوقت، لا تجد مكتبة واحدة بها مليون رسالة بحثية أو أطروحة أو كتاب علمي، ولا وجود لمستشفيات راقية يذهب لها المرضي بدلاً من ذهابهم للخارج! ولا وجود لبنية تحتية لتقنية المعلوماتية لتأسيس دولة حديثة! ولا حتى قاعدة رقمية دقيقة لمعرفة عدد السكان ومُكوناته!.

عليه لا خيار، أمام الشعب، إلا البحث عن العلم أينما كان، والقضاء على الفقر الثقافي والمعرفي بكل الوسائل الممكنة والمتاحة، بمعنى آخر، إن ما يحتاجه الوطن اليوم هو المزيد من العلماء والمبتكرين والمخترعين والاقتصاديين الإداريين والتربويين والفنانين ورجال الأعمال لمواجهة تحديات العصر.

ثانياً: السلطة

أما الإشكالية الثانية التي يجب حلها بعلمية وعقلانية هي “إشكالية السلطة“، فبالرغم من أنه لا يوجد تعريف واحد مُحدد ومُتفق عليه لمعنى مفهوم “السلطة” إلا أنه يمكن تحديد معناها في:

(أ) حصر الصلاحيات التي يمنحها الشعب للمسؤولين.

(ب) اختيار الأدوات التي تحدد نوع هذه الصلاحيات.

(جـ) شمول هذه الصلاحيات على حق المسؤولين في اتخاذ القرارات المُلزمة للجميع.

ولكي تُحقق السلطة أهدافها لابد من توفر شروط لعل من أهمها:            

 (1) حق الاختيار – أي حرية المواطنين في اختيار من يحكمهم.

(2) وجود دستور – أي وثيقة متفق عليها وتعتبر مرجعية نهائية للجميع.

(3) بناء مؤسسات قوية موحدة ومستقلة. (للمزيد راجع: بالروين, 2011).

ثالثاً: الثروة

أما الإشكالية الثالثة التي يجب حلها بعلمية وعقلانية هي “إشكالية توزيع الثروات“، بمعنى إيجاد معايير توافقية عادلة لتوزيع الثروات، ودسترة هذه المعايير حتى لا يتم تسيسها، ولعل من أهم هذه المعايير:

(أ) التوزيع على أساس عدد السكان.
(ب) التوزيع على أساس الحاجة.
(جـ) التوزيع على أساس المساواة.
(د) التوزيع على أساس درجة التهميش.
(هـ) التوزيع على أساس جبر الضرر.
(و) التوزيع على أساس الرقعة الجغرافية.
(ز) التوزيع على أساس التنمية المكانية والبشرية.
(حـ) التوزيع على أساس متطلبات توطين المشاريع الوطنية.
(ط) التوزيع على أساس المنافسة بين الوحدات المحلية.
(ك) التوزيع على أساس أي معايير آخري يراها المشرع ضرورية، ويحدد ذلك بقانون.

إن تطبيق هذه المعايير سيقضي على الفقر ويقدم حلاً عادلاً لمعضلة “عدم التساوي” بين المواطنين، ويدفع بالدولة لحماية أصحاب الدخل المحدود بالمساعدات المادية والمالية – كالضمان الاجتماعي، وتوفير الرعاية التعليمية والصحية، وتقديم الخدمات الحكومية،   ومكافحة الفساد، وتحقيق الكرامة الإنسانية للجميع.

ختاماً، يمكن القول أن الواقع السياسي الليبي يعيش اليوم كارثَة “ثالوث الفقر”, التي نتج عنها أن أصبح المواطنون البسطاء “أنصاف جوعى”، والنخب “أنصاف متعلمين”، والطبقة الحاكمة تتكون من أسوأ من في الشعب، وتؤمن بأن “اللي تغلب به العب به”، وتنظر للسياسيين الأخلاقيين على أنهم مجموعة من الدرويش.

وبذلك أصبح هذا الثالوث شر يتربص بالجميع، وخطر يهدد الوطن، وإذا لم يتم مواجهته سيكفر الشعب بدولته، وتموت في نفوس المواطنين مشاعر الانتماء. فهل في الإمكان إعادة هيكلة التربية والتعليم، وإصلاح منظومة السلطة والمؤسسات، وتحقيق التوزيع العادل للثروات.

أدعو الله أن يتحقق ذلك قبل فوات الأوان.

أخيرا، يا أحباب، لا تنسوا أن هذا مجرد رأي،

فمن أتى برأي أحسن منه قبلناه،

ومن أتى برأي يختلف عنه احترمناه.

والله المســـتعـان.

======

المراجع:

محمد بالروين, 01 فبراير 2022, “أزمتنا أخلاقية.”

/news/opinions/347799?author=1

محمد بالروين, 15 نوفمبر 2011, “من مفهوم السلطة السياسية (1 – 2).”

http://mohamedberween.blogspot.com/2011/11/1-2_5625.html

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

ا.د. محمد بالروين

أستاذ العلوم السياسية وعضو الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور

اترك تعليقاً