المُشرّع الليبي.. والعبث بالأرقام والجغرافيا السياسية

المُشرّع الليبي.. والعبث بالأرقام والجغرافيا السياسية

ا.د. محمد بالروين

أستاذ العلوم السياسية وعضو الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور

يمكن القول إن قصة العبث بالجغرافيا السياسية الليبية قد بدأت في ثمانينات القرن الماضي، عندما تبنت بعض النخب الغربية، وخصوصا تيار المحافظين – الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية، ما عُرف بمشروع برنارد لويس (1916 – 2018)، لخلق “شرق أوسطي جديد”، من أهم أهدافه: (1) تغيير المصطلحات السياسية الشائعة في المنطقة وخلق مصطلحات بديلة لها، مثل مصطلح “الوطن العربي” واستبداله بمصطلح “الشرق الأوسط”، ومصطلح “العالم الإسلامي” واستبداله بمصطلح “الإسلام السياسي”، (2) تفكيك دول المنطقة وإعادة تقسيمها إلى “دويلات” عشائرية وطائفية وعرقية وقبيلة وجهوية، بشرط أن تكون تابعة وضعيفة ومفلسة! و(3) تشجيع هذه الدويلات على التطبيع مع إسرائيل.

وفقا لهذا المخطط، تم تقسم ليبيا إلى ثلاث دويلات! وقد بدء العمل على ذلك خلال ما عُرف بـ”مشروع ليبيا الغد”، عندما اقترحوا على سيف القدافي فكرة بناء أربع مشاريع (عملاقة)، كان من بينها “حفر قناة بحرية” من خليج سرت وحتى وسط الصحراء الليبية، وتم تقديم هذه الفكرة على أنها ستجعل ليبيا تملك ثروة مطرية هائلة وستحول الصحراء إلى غابات كما كانت عليه قبل ملايين السنين. وللأسف قَبل سيف هذه الفكرة دون أي دليل علمي على ذلك! ولتوضيح مقترح هذا المشروع أنظر إلى الخريطة التالية:

وما أن سقط نظام القذافي في 2011، حتى حاول الغرب وفي مقدمتهم فرنسا تقديم مشروعهم إلى الحُكام الجدد! وفي 2012 نجحت فرنسا في تمرير مشروعها المعروف بـ”سرت الكبرى” من خلال اللجنة التي شكلها المجلس الوطني الانتقالي لوضع مشروع قانون لانتخاب أعضاء المجلس التشريعي الجديد، ونتج عن ذلك صدور القانون رقم (4) لسنة 2012 بشأن انتخاب المؤتمر الوطني العام.

في هذا القانون، قرر المجلس الانتقالي أن يكون هناك “مجلس تشريعي واحد”، وأن يكون أساسه الجمع بين الجغرافيا وعدد السكان، وأن يكون مجموع أعضاءه 200 عضواً، وأن يتم انتخابهم على أساس “خريطة سرت الكبرى”، تقسم من خلالها ليبيا إلى: منطقة شرقية، ومنطقة وسطى – جنوبية، ومنطقة غربية، بدلاً من خريطة الأقاليم التاريخية الثلاث – برقة وطرابلس وفزان!! هذه الخريطة الجديدة، هي ببساطة مشروع استعماري فرنسي، يهدف إلى أن يكون لفرنسا منفذ على البحر الأبيض المتوسط!.

يروي “موقع أنا ليبي الإلكتروني” القصة كالآتي: “هناك تسريبات من أطراف مُقربة لدول غربية كبرى بخصوص سيناريو التقسيم المطروح كحل للمشكل السياسي والعسكري في ليبيا، والتقسيم سيكون لثلات ولايات الغرب وبرقة وفزان، حدود الغرب ستكون حتى منطقة أبوقرين، أما برقة فحدودها الوادي الأحمر، والمنطقة بين الوادي الأحمر وأبوقرين سوف يُستفتى سكانها بخصوص أي إقليم سوف يتبعون، الغرب أم برقة أم فزان، ويُرجح أن جميع سكان هذه المنطقة سيختارون فزان، ولا يرغبوا في تبعيتهم لبرقة أو الغرب، وبهذا سيكون لإقليم فزان واجهة على ساحل البحر لإقامة موانئ نفطية وكذلك تجارية…”.

بناءاً على هذا التقسيم ستكون خريطة الجغرافيا الجديدة كالآتي:

والحقيقة أنه من المؤسف، أن الذين تبنوا هذا التقسيم لم يقدموا لنا أي تبرير، لا منطقي ولا تاريخي، لاختيارهم لهذا المخطط الاستعماري، ولم يذكروا لنا أسباب رفضهم للتقسيم التاريخي والمعروف بالأقاليم التاريخية الثلاث؟! وكنتيجة للقبول بهذا التقسيم الجغرافي، انتشرت “الثقافة العبثية” في كل مفاصل الدولة، وفي التعامل مع جميع إشكالياتها الجوهرية، والأمثلة على ذلك كثيرة لعل من أهمها:

أولاً: العبث في انتخابات مقاعد المؤتمر الوطني (2012)

بعد اعتماد التقسيم الجغرافي الجديد، بدأت اللجنة في توزيع المقاعد على أساس الإحصاء السكاني لسنة 2006. الجدول التالي يوضح عدد ونسبة المواطنين في كل منطقة:

تجاهل المتوسط الانتخابي

في علم الانتخابات، هناك طريقتان للتوزيع العادل لمقاعد المجالس التشريعية، على أساس مبدأ “شخص واحد.. صوت واحد”:

الطريقة الأولى

إذا حدد الدستور “المتوسط الانتخابي”، كما نصت على ذلك المادة (101) من الدستور الليبي 1951، بأن: “يُحدد عدد النواب على أساس نائب واحد عن كل عشرين ألفاً من السكان أو عن كل جزء من هذا العدد يجاوز نصفه”، فيجب أن يُحدد القانون عدد مقاعد المجلس التشريعي وذلك بتقسيم عدد سكان الدولة على المتوسط الانتخابي.

الطريقة الثانية

أما إذا لم يحدد الدستور “المتوسط الانتخابي”، وحدد القانون عدد مقاعد المجلس التشريعي، كما هو الحال في القانون رقم (4) لسنة 2012 بشأن انتخاب المؤتمر الوطني العام، فهنا يجب معرفة المتوسط الانتخابي لكل مقعد، حتى يتحقق التمثيل العادل بين أبناء الشعب. وعليه عند انتخاب أعضاء المؤتمر الوطني العام في 2012، كان يجب القيام بالآتي:

(أ) معرفة المتوسط الانتخابي بتقسيم: 5,328,811\200=26,644

(ب) معرفة عدد مقاعد كل منطقة وذلك بتقسيم عدد سكانها على المتوسط الانتخابي كالآتي:

– مقاعد المنطقة الغربية : 3,287,972\(26,644)= 123 مقعد.

– مقاعد المنطقة الشرقية : 1,504,224\(26,644)=57 مقعد.

– مقاعد المنطقة الوسطي-الجنوبية: 536,615\(26,644)= 20 مقعد.

ولكن هذا التوزيع تم رفضه من ممثلي المنطقة الشرقية والمنطقة الوسطي – الجنوبية، لخوفهم من هيمنة المنطقة الغربية على آلية اتخاذ القرار. وفي اعتقادي، كان تخوفهم مشروع لوجود مجلس تشريعي واحد.

ولكن بعد مناقشات، تم التوافق على أخذ المعيار الجغرافي في الاعتبار، وكنتيجة لذلك، قامت المنطقة الغربية بالتنازل على بعض من مقاعدها كحل مؤقت حتى اعتماد الدستور الدائم. وبذلك تم إعادة توزيع المقاعد كالآتي:

* الغربية=  123 – 23= 100

* الشرقية=  57 + 3=  60

* الوسطى – الجنوبية=  20 + 20= 40

ثانياً: العبث في انتخابات مقاعد الهيئة التأسيسية (2013)

بعد أن تم انتخاب المؤتمر الوطني العام عام 2012، كان من أهم مهامه تشكيل هيئة تأسيسة لإعداد مشروع الدستور، وبذلك أصدر قانون رقم (17) لسنة 2013 بشأن انتخاب الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور.

في هذا القانون، توافق أعضاء المؤتمر على أن تتألف الهيئة من ستين عضوا، ولكنهم اختلفوا على التقسيم الجغرافي، إذ رفض بعض الأعضاء حدود الأقاليم التاريخية الثلاث (برقة وطرابلس وفزان)، ورفض آخرين تقسيم البلاد على أساس مشروع سرت الكبرى. وبعد جدال طويل توافقوا على أن تأخذ المنطقة الجنوبية مدينة غدامس في مقابل أن تصبح سرت والجفرة جزء من المنطقة الغربية!! وبذلك تم تقسيم البلاد، مرة ثانية، إلى 11 دائرة لانتخاب أعضاء الهيئة التأسيسية عام 2014؟! أنظر الخريطة الآتية:

ثالثاً: العبث في انتخابات مقاعد مجلس الأمّة حسب مقترح لجنة 6+6

عندما التقى أعضاء لجنة 6+6 في مدينة بوزنيقة المغربية ذات الطابع الحضري والسياحي، وذات الرمل الجدابة على شواطئ المحيط الأطلسي، توافق الأعضاء بسرعة على وضع القوانين التي جاءوا من أجلها، وإلى درجة أنهم نسوا (أو تناسوا) ما نص عليه التعديل الثالث عشر للإعلان الدستوري المؤقت في هذا الشأن، ولتوضيح كيف تم هذا التوافق، دعونا ننظر إلى:

أولا: تكوين مجلس النواب

بالرغم من أن التعديل الثالث عشر قد نص على ـن يكون “المتوسط الانتخابي” هو: 1: 30,000 أو عن كل جزء من هذا العدد يتجاوز نصفه، وأن يتم استخدام عدد السكان وفقا لتقديرات 2020م، أي 6,871,892، وأن يكون عدد مقاعد مجلس  النواب= 6,931,061 \30,000 = 231 مقعد، إلا أن لجنة 6+6، تجاهلت كل هذه الحقائق، وقررت أن يكون عدد مقاعد مجلس النواب 297 مقعد (أي بإضافة 66 مقعد على 231)، ودون تقديم أي مبررات منطقية لهذه الزيادة! وكنتيجة لذلك، أنظر إلى الجدول (1) لتتعرف على درجة العبث في توزيع مقاعد مجلس النواب!

أما الخريطة القادمة فتوضح عدد مقاعد كل منطقة كما حددتها لجنة 6+6:

ثانياً: تكوين مجلس الشيوخ

بالرغم من أن التعديل الثالث عشر قد نص على أن يكون عدد مجلس الشيوخ 90 عضواً (أي 30 عضو لكل إقليم)، إلا أن اللجنة، بدلاً من استخدام الخرائط السابقة لتقسيم الأقاليم، قامت بأسلوب عبثي، تقسيم أقاليم جديدة لاختيار أعضاء هذا المجلس! وللتوضيح أنظر إلى الخريطة التالية لمعرفة درجة العبث!

في هذه الخريطة، قامت اللجنة برسم دوائر انتخابية تفتقر إلى أي معايير مهنية، إذ قامت بوضع مدينة سرت في المنطقة الغربية، وبوضع مدينة الجفرة في المنطقة الجنوبية، وأعطت مدينة غدامس (التي لا يزيد عدد سكانها عن 10,000 مواطن) مقعدين، مُشترطة أن يتم أخذ أحد المقاعد من المنطقة الغربية، وأن يتم أخذ المقعد الثاني من المنطقة الجنوبية! والأسوأ من ذلك، هو التوزيع العشوائي للمقاعد في داخل كل أقليم! ولتتعرف على درجة العبث، أنظر الجدول الآتي:

رابعاً: العبث بإعطاء مقاعد إضافية لأعضاء لجنة 6+6 في المجلسين

لقد وصل الاستخفاف إلى درجة أن يقوم أعضاء لجنة 6+6 بمكافأة أنفسهم وذلك بأخذ حصة من مقاعد مجلس الأمّة (النواب والشيوخ) وإضافتها إلى الدوائر الانتخابية التي أتوا منها؟!! ولتوضيح هذا الوضع المأساوي، على القارئ الاطلاع على الجدول الآتي ليحكم بنفسه.

خامساً وأخيراً: العبث في تقسيم الدوائر الانتخابية الرئيسية، وعلى أي أسس سنختار الأقاليم المقبولة للجميع؟

بمعنى آخر، هل يجب أن نختار الـقاليم التاريخية الثلاث، وكما أسسها الآباء والأجداد عام 1951؟

أم هل يجب أن نختار الأقاليم الثلاث على أساس الدوائر الــ13 لانتخاب المؤتمر العام في 2012 ومجلس النواب عام 2014:

أم هل يجب أن نختار الأقاليم الثلاث على أساس الدوائر الــ11 لانتخاب الهيئة التأسيسة لصياغة مشروع الدستور عام 2013:

أم هل يجب أن نختار الأقاليم الثلاث على أساس الدوائر الــ11 لانتخاب مجلس الشيوخ كما تقترحتها لجنة 6+6 عام 2023:

الخلاصة

مما ذكرته أعلاه، يتضح، وبما لا يدعو مجالاً للشك، أن درجة العبث التي قام به “المُشرّع الليبي” خلال العشر سنوات الماضية قد وصلت إلى ألا معقول! ولعله من المناسب أن أختم هذا المقال، بتذكير كل الخيّرين في ربوع الوطن، ببعض القضايا المهمة والتي من الضروري الاهتمام بها، إذا أرادوا تأسيس دولة ديمقراطية مدنية وعادلة، لعل من أهمها:

أولا: ضرورة وجود “قواعد بيانات رقمية” دقيقة وشاملة. وفي مقدمة ذلك، القيام بإحصاء سكاني شامل (كل عشر سنوات) لتحقيق التوزيع العادل في كل الأمور، وألا سيستمر “مستنقع العبث” بالأرقام والجغرافيا، ولن ينجح في هذه الثقافة العبثية ألا من يُجيد لعبة “من يضحك على من؟!”

ثانياً: ضرورة التوافق على “تركيبة المجلس التشريعي”، بمعنى هل بلادنا في حاجة إلى “برلمان من مجلسين” – أي مجلس نواب على أساس العدد، ومجلس شيوخ على أساس الجغرافيا، وإذا كانت في حاجة إلى ذلك، كما هو الحال في العديد من الدول الديمقراطية الحديثة، فهناك أكثر من 83 نموذج (بالإضافة إلى الدستور الليبي 1951) يمكن الاقتباس منها.

وإذا لم نصل إلى توافق في هذا الشأن، فاقترح الاستمرار في ممارسة الديمقراطية، كحل مؤقت لمدة ثلاث دورات انتخابية، على أساس معادلة “برلمان المجلس الواحد” الذي تم التوافق عليه في عام 2012 – أو ما عُرف بالمؤتمر الوطني العام ومعادلة الـ100 عضو للمنطقة الغربية، 60 عضو للمنطقة الشرقية، 40 عضو للمنطقة الوسطى – الجنوبية، وأن تكون الأقاليم التاريخية الثلاث هي نقطة الانطلاق.

ثالثاً: ضرورة التوافق على “التقسيم الإداري للدولة” – فلا وجود لدولة حديثة وناجحة بدون إدارة وسطي. فهل يعقل – كما تقول لجنة 6+6 – أن يتم انتخاب مجلس النواب على أساس “خريطة سرت الكبرى”، وفي نفس الوقت، تقترح نفس هذه اللجنة 6+6، أن تتم انتخابات مجلس الشيوخ على أساس الدوائر الـ11 لانتخاب الهيئة التأسيسة لصياغة مشروع الدستورن وأن تشترط تعديلها كالآتي – إعطاء سرت للمنطقة الغربية، وإعطاء الجفرة للمنطقة الجنوبية، والأغرب من ذلك، جعل مدينة غدامس منطقة مشتركة – بين الغربية والجنوبية، إذ أعطت اللجنة مقعدين لمدينة غدامس في مجلس الشيوخ (مع العلم أن تقديرات عدد سكان مدينة غدامس هو 9,558 حسب إحصاء 2006) – “مقعد للمكون” بشرط أن يتم أخذه من حصة الجنوبية، و”مقعد للعام”، بشرط أن يتم أخذه من حصة الغربية.

فهل يُعقل استمرار هذا العبث؟!.

وهل آن الأوان للاهتمام بهذه الأفكار الضارة والتي لن تبني وطن، وقبل أن تتحول إلى “ثقافة عبثية” من الصعب التخلص منها.

وأخيراً، هل آن الأوان للعمل الجاد على أسس علمية ومنهجية لتأسيس دولة ديمقراطية حديثة يحلم بها الجميع؟!.

أدعو الله أن يتحقق ذلك.

والله المستعان

المراجع

* سرت الكبرى، موقع “أنا ليبي”، 22 يونيو 2022 https://www.facebook.com/ana.libyi/photos/a.112707603570235/593873988786925/?type=3      

أو   https://www.facebook.com/ana.libyi

* الدستور الليبي، دار المنار، الطبعة الأولى، مايو 2006، لندن.

* المادة (13) من مشروع قانون لجنة (6+6)، بشان انتخاب مجلس الأمّة.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

ا.د. محمد بالروين

أستاذ العلوم السياسية وعضو الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور

اترك تعليقاً