مسيرة الهيمنة الأمريكية على المحيطات والبحار.. من القره مانليين إلى الحوثيين

مسيرة الهيمنة الأمريكية على المحيطات والبحار.. من القره مانليين إلى الحوثيين

ا.د. محمد بالروين

أستاذ العلوم السياسية وعضو الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور

لعله من بديهيات القول، التذكير بالحتمية التاريخية التي تقول: “الحياة – تحدي واستجابة” والحقيقة أن جُل قادة الولايات المتحدة الأمريكية قد أدركوا هذه الحقيقة مند تأسيسها، وأمنوا بأنهم لا (ولن) يكونوا قادرين على تحقيق المصالح القومية في العلاقات الدولية إلا بامتلاك “القوة العسكرية” واستخدام سياسات “الاعتماد المتبادلInterdependence “، ومند ذلك الحين انطلق هؤلاء القادة في بناء ما يمكن أن يُطلق عليه “استراتيجية ضرورة الهيمنة على المحيطات والبحار” لتحقيق أهدافهم الوطنية، والاسئلة المهمة في هذا الصدد هي:

ما هي أهم التحديات التي قادت إلى تبني هذه الاستراتيجية؟

وما هي أهم التحديات التي تواجهها هذه الأيام، وقد تؤدي إلى أفولها؟

أولاً: أمريكا.. والتحدي القره مانلي

إن من أهم التحديات التي دفعت بالقادة الأمريكيين لتبني هذه الاستراتيجية في مطلع القرن التاسع عشر هو ما يمكن أن أطلق عليه بـ:”التحدي القره مانلي”.

لقد حكم يوسف باشا القره مانلي ليبيا من 1795 إلى 1832، وكان حاكما طموحا وشجاعاً، أكد خلال حكمه على سيادة الدولة وأراضيها ومياهها، ولكي يؤكد ذلك، قام بفرض رسوم مرور لعبور المياه الإقليمية على كل الدول، مما أدى إلى أن تقوم أمريكا بتوقيع معاهدة معه عام 1796، نصت على امتناع ليبيا من مهاجمة السفن الأمريكية مقابل رسوم سنوية متفق عليها.

وعندما عرف يوسف باشا أنه لا يتحصل على رسوم سنوية مُجزية، إسوة بحكام تونس والجزائر، طلب من الحكومة الأميركية زيادة هذه الرسوم، إلا أنها رفضت طلبه، وأخدت تُماطل في دفع الرسوم المتفق عليهاً، فأخد يوسف باشا يشعر بالخوف من التصرفات الأمريكية، ونتيجة لذلك قام بإعداد قواته البحرية، التي كانت تتكون من 20 سفينة صغيرة و1000 بحارا، استعداداً للحرب.

وبعد أن جهز قواته، أمر جنوده أن يحطموا سارية العلم الأمريكي القائمة أمام قنصليتها في طرابلس، مما دفع بالقنصل الأمريكي للاحتجاج على الإهانة التي لحقت بعلم بلاده وقرر المغادرة.

وما أن وصل الخبر إلى الرئيس الأمريكي “توماس جفرسون” حتى أرسل قواته إلى البحر المتوسط لــ:

(1) تعزيز القوات الأمريكية في المنطقة وزيادة هيبة الدولة.

(2)  تلقين يوسف باشا درسا لن ينساه في فنون الحرب.

(3) تحقيق نصر مدوي وتدشين حقبة جديدة للأسطول البحري الأمريكي.

(4) فرض التواجد العسكري الأمريكي في أكثر مناطق العالم حيوية.

(5) جعل هذه العملية بمثابة الخطوة الأولى نحو بناء الإمبراطورية الأمريكية الجديدة.

انطلقت هذه القوات إلى الشواطئ الليبية، بقيادة الأسطول السادس المتكون من فرقاطتين جُهزت كل منهما بـ44 مدفعا، وكان أحد هذه الفرقاطات تسمى “فيلادلفيا”، بالإضافة إلى سفينة مجهزة بـ32 مدفعا، وأخرى شراعية مجهزة بـ12 مدفعا.

في 31 أكتوبر 1803، تمكن الليبيون من السيطرة على الفرقاطة فيلادلفيا، وقادوها إلى ميناء طرابلس وكان على متنها 308 بحارة استسلموا جميعا، وعندما عجزت القوات الأمريكية عن استرداد هذه الفرقاطة، استنجدت بمرتزقة مالطيين، استطاعوا التسلل للفرقاطة وقاموا بحرقها حتى لا يستفيد منها الليبيون.

وبذلك يمكن اعتبار حادثة السيطرة على فرقاطة فيلادلفيا الحافز الرئيس والتحدي القوي للولايات المتحدة للاهتمام بقواتها البحرية، واتخذت لهذه القوات نشيداً، يقول في مطلعه:

من قاعات مونتيزوما ** إلى شواطئ طرابلس

نحن نحارب معارك بلادنا ** في الجو والأرض والبحر

ومند ذلك الحين يمكن اعتبار هدة الهزيمة، في 31 اكتوبر 1803، هي البداية لمسيرة السعي نحو الهيمنة الأمريكية على المحيطات والبحار، والتي لا تزال مستمرة حتى اليوم.

ثانياً: أمريكا.. والتحدي الحوثي

في نهاية أكتوبر 2023، أعلن الحوثيون عن بدء عمليات عسكرية ضد إسرائيل دعما للمقاومة الفلسطينية، ولإجبار إسرائيل لوقف حربها الظالمة على غزة.

بدأ الحوثيون مشاركتهم في الصراع بإطلاق صواريخ باليستية وطائرات بدون    طيار على إيلات، واستهداف السفن في البحر الأحمر، وفي 19 نوفمبر 2023، نجحوا في إيقاف سفينة شحن إسرائيلية واحتجزوا طاقمها كرهائن.

وقد أعلن الحوثيون أن ترسانتهم العسكرية كبيرة، تشمل صواريخ متعددة ومتقدّمة، ومجموعة كبيرة من الطائرات المسيرة، وأعلنوا أنهم يملكون القدرة العسكرية لإغلاق مضيق باب المندب ذو الأهمية للتجارة الدولية.

بهذه الخطوة أعلن الحوثيون أنهم طرفاً في الحرب للدفاع عن غزة إلى جانب المقاومة الفلسطينية، وتعهدوا بمواصلة استهداف الأراضي والسفن الإسرائيلية    حتى يتوقّف العدوان على غزة.

هذه التصرفات الحوثية وترسانتها العسكرية، اعتبرتها الولايات المتحدة تهديد دولياً وخطر على التجارة والسفن والعمليات العسكرية الأمريكية في المنطقة.

واستجابة لتهديدات الحوثيين على إسرائيل وسفنها في البحر الأحمر، أعلنت أمريكا إطلاق عملية “حارس الازدهار” لضمان ما أسمته بـ”الملاحة الدولية الآمنة”، وقد شارك في هذه العملية – إلى جانب الولايات المتحدة – كل من بريطانيا وإيطاليا وإسبانيا وكندا وهولندا والنرويج وسيشيل والبحرين.

وفي يوم 12 يناير 2024 نفذت طائرات وسفن وغواصات أمريكية وبريطانية أكثر من 73 ضربة في كل أنحاء اليمن على أهداف تابعة للحوثيين، ردا على هجماتهم المستمرة في البحر الأحمر.

ورد الحوثيون على هذا الهجوم “الأمريكي – البريطاني” عليهم، بالتأكيد على الآتي: (1) الإصرار على الاستمرار في الوقوف إلى جانب المقاومة الفلسطينية.

(2) التعهد بمواصلة استهدافهم للأراضي والسفن الإسرائيلية حتى يتوقّف العدوان على غزة.

(3) إعلان استعدادهم لمهاجمة السفن الأمريكية إذا استمرت في التدخل في شؤون البلاد أو مهاجمة اليمن.

(4) إعلان زعيم الحركة الحوثية السيد عبد الملك الحوثي بأن حركته “ستجعل السفن الأمريكية هدفاً لصواريخها، وأن تهديدات الأمريكان لن تخيفها”.

ويبقى السؤال للأمريكيين وحلفائهم الآن هو:

كيف سيتم احتواء “التحدي الحوثي؟!”

وهل فعلاً من صالحهم القضاء عليه؟!

وما هو الحل الأمريكي إذا قرر الحوثيون إغلاق مضيق باب المندب؟

بمعنى كيف ستستجيب أمريكا لهذا التحدي؟

وهل ستكون فعلاً “حارسا للأزدهار” في العالم كما أعلنت في عمليتها البحرية؟ أم سيحدث لها ما حدث في حروبها السابقة في كل من – كوريا وفيتنام وبنما والصومال والعراق وأخيرا في أفغانستان؟

الخلاصة

يمكن القول إن الولايات المتحدة في تعاملها مع “التحدي الحوثي” تواجه اليوم، ما يسمى في أمريكا بـ”معضلة صيد 22 (Catch 22)” بمعى أمريكا اليوم تواجه: “معضلة إذا انتصرت، ومعضلة أكبر إذا خسرت”.

وعليه يبقى السؤال: هل سيضطر الأمريكيون اليوم للاستجابة لمطالب الحوثيون والضغط على إسرائيل لإيقاف حربها على غزة، وهذا في اعتقادي، مالا تريده إدارة الرئيس بايدن؟ أم ستستمر أمريكا في مواجهة الحوثيين ومحاولة إيقافهم، وهذا أيضا ما لا تستطيع إدارة بايدن الاستمرار فيه؟

وعليه إذا لم يتحقق هذا ولا ذاك، فستكون حرب إدارة الرئيس بايدن ضد الحوثيين – في نظر الكثيرون – مؤشر حقيقي لبداية انهيار الهيمنة الأمريكية على المحيطات والبحار، وبذلك تكون بداية نهاية أمريكا كدولة عظمى.

في الختام، الجميع في انتظار الأيام القادمة لمعرفة النتيجة.

أخيرا لا تنسوا, يا أحباب، أن هذا مجرد رأي اعتقد أنه صواب،

فمن أتى برأي أحسن منه قبلناه،

ومن أتى برأي يختلف عنه احترمناه.

والله المســتعـان.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

ا.د. محمد بالروين

أستاذ العلوم السياسية وعضو الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور

اترك تعليقاً