الهارب…

الهارب…

كان قريبنا تاجراً طرابلسياً ثرياً ترافق مع ابناء تلك المدينة في حقبة ما بعد الاحتلال وعاش مثلهم فلم يعرف أجزاء عائلتنا البرقاوي والمصراتي إلا من أحاديث والدته الحاجة مناني رحمها الله.

في عام 1969 أتى انقلاب سبتمبر -الانقلاب العسكري الذي قاده الزعيم الليبي معمر القذافي- على الأخضر واليابس في البلاد وضيق على التجار فما كان من الأربعيني الأعزب إلا أن فر هاربا إلى برقة ومن بيت إلى بيت في شرق برقة وغربها استقر به المقام في وسط بنغازي بعيدا عن أنظار زوار الليل وسائقي سيارات السيلو وعاش وحيدا فارا لم يستطع الخروج من البلاد أو استكمال حياته الطبيعية رافضا كل المحاولات العائلية في الوساطة مع أجهزة الأمن في ذلك الوقت ومحاولة انتشاله من العزلة التي يعيشها

مقابل منزل قريبنا كان الحاج رجب البقال الذي رسمت شقاوة العيش ندوبا على ملامحه كان يستقبل قريبنا بسعال متقطع الذي لم يجد ملاذا خارج جدرانه الأربعة إلا بقال الحاج رجب الذي كان يفاتحه ببسمة تلحقها كلمة : “مرحبا بالغرابة”

كان قريبنا يحب الحاج رجب ويسخر من كلمة نابيدي التي يطلقها مراجع ابن عم الحاج رجب الذي يزور بنغازي كل سبت قادما من بنينا فكان الأخير يعلق ساخرا نصرة لابن عمه فيسخر من كلمة “يسارها” ومن “حيش” التي كان جدي يقولهما الأولى للترحيب بالحاج رجب العقوري والثانية ليبدأ قصص البكاء على أطلال أيام جميلة مضت

كان قريبنا لا يثق إلا في الحاج رجب ولايسمع الأخبار إلا من دكانه الصغير الذي يأكل فيه المقطع بالقديد الذي تعده نجية زوجة رجب وكلما أكل قال له ربي يرزقك بالذرية الصالحة فيرد عليه:النصيب من الله …مرات ربك يرزقنا بمعكوس كيف ابناخيي فوزي يلقط فالعرب وينتهك في حرمات المسلمين في الفجور.

عادة ماينتهي الحديث بينهما عندما يذكر فوزي ..قريبنا كان ينسحب ببطئ حتى لا يراه بقية الجيران فيعيدون “قصة الغرباوي اللي لابسه جن”

ينسحب ببطئ ويقول لرجب: “كيف ماقتووتلك يا رجوبة أني نفيق الفجر نسند في السرانتي بعصية كان زرقت الشمس ومالقيتش العصية أكسر عليا الباب”

مضت سنوات ولم يجد رجب في ذات النهارات “العصية” فصاح لنجية التي بكت بشدة بينما كان يكسر الباب وقال لنجية اتصلي بطرابلس وبنغازي والبيضاء وكلمي سالمة أختي تشوف فوزي يتوسطلنا بخيمة من الجيش.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

عبدالله عز الدين

صحفي وكاتب ليبي

اترك تعليقاً