انهيار إمبراطورية الشر

انهيار إمبراطورية الشر

فاضل بن عاشور

دبلوماسي ليبي متقاعد

“إمبراطورية الشر” صفة أطلقها الرئيس الأمريكي رونالد ريغان على الاتحاد السوفيتي في ثمانينيات القرن العشرين في إطار الصراع القائم بين القوتين العظمتين أثناء الحرب الباردة، يمكن لنا استدعاء ذلك الوصف على حالة روسيا الراهنة رغم اختلاف المتغيرات الجيوسياسية الإقليمية والدولية.

ماذا يريد بوتين من غزو أوكرانيا؟ وهل نشهد انهيار امبراطورية بوتين كما شهدنا انهيار الاتحاد السوفيتي؟ أم نشهد توسع امبراطورية بوتين على ضفاف البحر الأسود؟.

لابد من الاعتراف أولا بأن هذه الحرب غير مسبوقة في طريقة إخراجها الإعلامي السياسي والعسكري ولم تشهد لها القارة الأوروبية مثيلا منذ الحرب العالمية الثانية، وبالتالي فإن تداعياتها ونتائجها الجيوسياسية والاستراتيجية ستكون عالمية الأثر ولن تقف عند حدود الدولتين.

قد يكون من المبكر والسابق لأوانه التنبؤ بالنتائج النهائية البعيدة المدى للاجتياح الروسي لأوكرانيا على النظامين الإقليمي والعالمي، إلا أنه يمكن استخلاص بعض الاستنتاجات والتوقعات من خلال المعطيات المتوفرة.

إخفاق الترسانة العسكرية لثاني أكبر قوة عسكرية في العالم، في تحقيق النصر العسكري الكامل على الجيش الأوكراني -المتواضع- وعجزها عن احتلال العاصمة كييف والمدن الرئيسية الأخرى رغم مضي أكثر من أربعة أسابيع على بداية  الاجتياح العسكري لأراضي أوكرانيا.

تقلبات وتغييرات متلاحقة في أهداف وتكتيكات واستراتيجيات الحملة العسكرية الروسية، بداية بالإعلان الأول عن “حملة عسكرية خاصة لنزع سلاح أوكرانيا”، ثم محاولة اختراق المدن الرئيسية بداية بالعاصمة، إلى محاولة استهداف البنية التحتية المدنية والعسكرية والتجمعات السكانية، إلى حصار المدن ومحاولة إفراغها من سكانها، إلى إعلانات وتسريبات عن أهداف متعددة: ما بين منع انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو وإعلان حيادها، إلى اعترافها بسيادة روسيا على شبه جزيرة القرم، وتحرير إقليم دونباس، إلى اعترافها بالجمهوريات الانفصالية في شرق أوكرانيا.

بدون شك فإن الترسانة العسكرية الروسية قد تمكنت بعد مضي أكثر من شهر على حملتها العسكرية من إحداث  تحولات جيوسياسية واستراتيجية بدت في التشكل والظهور في الجيوبوليتيك الأوكراني رغم أن الحرب لم تضع أوزارها بعد وليس من المتوقع التنبؤ بالمدة التي قد تستغرقها.

في جميع الأحوال فإن سير المعارك وتطوراتها منذ تاريخ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا وحتى هذا التاريخ الذي يتزامن مع انتهاء جولة المفاوضات الروسية الأوكرانية برعاية الوسيط التركي في إسطنبول، لا تنبئ بسهولة تحقيق مجمل الأهداف الروسية العسكرية والسياسية المعلنة وغير المعلنة من غزو أوكرانيا، وتؤكد على أن تكلفة عملية الغزو باهظة الثمن اقتصاديا وعسكريا وبشريا وقد وصفتها مصادر أمريكية بأنها كارثة استراتيجية، وذلك رغم محاولات آلة الدعاية والبروباغاندا الروسية الظهور بمظهر المتفوق عسكريا المنتصر سياسيا.

الأهداف المعلنة من الغزو الروسي لأوكرانيا (حياد أوكرانيا، منع انضمامها لحلف الناتو، نزع أسلحتها الاستراتيجية، اعترافها بسيادة روسيا على شبه جزيرة القرم، اعترافها باستقلال الإقليمين المنفصلين واستبعاد العناصر القومية)، هي أهداف تكاد تكون غير مسبوقة في تاريخ العلاقات الدولية الحديثة منذ اعتماد ميثاق الأمم المتحدة، ولا ينقصها سوى الاعتراف صراحة بنية الاحتلال والضم الكامل الشامل لأراضي دولة مجاورة مستقلة ذات سيادة بمبررات غير قانونية.

رغم ذلك فقد تنازلت أوكرانيا خلال جولة مفاوضات إسطنبول وقبلت بعض الشروط خاصة (قبول مبدأ الحياد وعدم الانضمام لأي حلف عسكري بما في ذلك حلف الناتو) والتي تمثل جوهر مبررات الحرب على أوكرانيا التي روج لها الإعلام الروسي والدائرين في فلكه، إلا أن الجانب الروسي لم يبد مرونة و تجاوبا مماثلا مما يبرهن بالدليل القاطع أن تلك المبررات واهية.

الأهداف غير المعلنة من الغزو الروسي لأوكرانيا، وهي أهداف جيوسياسية، يرى الكثير من الخبراء والمحللين بأنها لن تقف عند حدود أوكرانيا بل ستتجاوزها إلى أراضي دول أخرى في الجوار الإقليمي والمجال الحيوي لروسيا طبقا لعقيدة التوسع والتمدد الجيوسياسية للرئيس بوتين.

موازين القوى بين الطرفين، بدون شك، تميل لصالح روسيا باعتبارها قوة رئيسية عظمى في العالم وأن الفوارق كبيرة بينهما من حيث مصادر القوة العسكرية والاستراتيجية والتقليدية والموارد البشرية والاقتصادية وغيرها، وأن بسط سيطرة الترسانة العسكرية الروسية على أجزاء هامة من أراضي أوكرانيا في ظل المعطيات الراهنة إنما يستغرق بعض الوقت الإضافي، رغم تواصل تدفقات الدعم العسكري واللوجستي الغربي والأمريكي على أوكرانيا.

السيناريو غير المرحب به والمستبعد من قبل عديد المحللين، يظل أحد الاحتمالات القائمة، وهو اتساع نطاق الحرب باستخدام السلاح النووي أو الكيماوي أو البيولوجي أو بدخول أو إدخال إحدى دول الناتو مباشرة على الخط لتصير حرب عالمية ثالثة.

انهيار “امبراطورية الشر” روسيا الاتحادية طبقا لعقيدة بوتين التوسعية وأطماعه الامبريالية الحالمة بإعادة مجد الإمبراطورية السوفيتية، يظل كذلك أحد الاحتمالات القائمة، لاسيما في حالة طول أمد الحرب وضخامة الخسائر المادية والعسكرية والبشرية في الترسانة العسكرية الروسية، حتى في حالة رضوخ أوكرانيا لبعض الشروط الروسية سواء من خلال عملية التفاوض أو من خلال الآلة العسكرية مما يُترجم على الأرض بتراجع نفوذ روسيا السياسي والاقتصادي والعسكري الإقليمي والدولي، وتقليص دورها في السياسة الدولية، وفقدان هيبتها كقوة رئيسية عظمى.

رغم ذلك فإن إعادة رسم خارطة روسيا الاتحادية على حساب جيوبوليتيك دولة الجوار أوكرانيا  تكاد تكون أبرز النتائج الجيوسياسية التي قد تتمخض عن حرب بوتين وتداعياتها لاسيما فيما يتعلق بتثبيت سيطرة روسيا على أجزاء من أوكرانيا وصولا إلى توسيع منطقة نفوذها على شاطئ البحر الأسود، وفي هذا السياق قد تكون مفاوضات إسطنبول هي حبل النجاة الذي من شأنه أن يحفظ ماء الوجه لزعيم إمبراطورية الشر رغم ما بدا من غطرسة وتصلب في المطالب على طاولة المفاوضات وصولا إلى التلويح باستعمال سلاح الغاز والنفط ضد أوروبا وذلك لتعويض ما فقده وفاته في ميدان المعركة.

فقدان روسيا هيبتها كقوة رئيسية في العالم وخروجها من حربها ضد أوكرانيا منهوكة القوى عسكريا واقتصاديا وماديا قد يكون دافعا لتفكيك إمبراطورية الشر الروسية كما تفككت إمبراطورية الشر السوفيتية مع الفارق، وذلك انطلاقا من بعض أقاليم ومكونات روسيا الاتحادية والجمهوريات المستقلة لاسيما تلك التي سبق وأن شهدت اضطرابات وقلاقل، للخروج من دائرة النفوذ والهيمنة التي تمارسها روسيا الاتحادية.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

فاضل بن عاشور

دبلوماسي ليبي متقاعد

اترك تعليقاً