تلازمت قيمة التعاون مع تشكل التاريخ الإنساني، بقيمة التعاون استطاعت المجموعة التقدم  في سلم الإنجاز  على كافة المستويات، بما في ذلك تطوير السلوك البشري  داخل إطار الجموعة ذاتها للوصول بقيمة التعاون لأرقى وأفضل النتائج.  تكونت القبيلة مع حاجة الإنسان للتعاون والتواجد المشترك لتحقيق حاجاته الأساسية، وظلت تمثل أحد مكونات النسيج المجتمعي في العديد من الدول العربية حتى يومنا. ورغم أن لها بعض الإيجابيات ، لكنها تعرقل قيام الدولة بمفهومها الشامل، وتحتاج مراجعات  جادة لمعالجة كم التداخلات بين القبيلة ودور الدولة .

القبيلة  مكون اجتماعي يربط بين افرادها مصالح ينسجها الولاء للأرض والمصلحة المشتركة ولرابطة الدم والنسب. هذا النظام الإجتماعي البسيط الذي شكلته متطلبات الحياة أحتاج لضرورات الحماية أن يكون مقفلا على مكوناته، وأن يجمع هذه المكونات الولاء والإخلاص التام لبعضها البعض، الصراع من أجل الحياة أوجب إلتزام الأفراد بهذه الأسس وأوجب  تعاونهم فيما بينهم كرد فعل طبيعي من أجل البقاء. مع توسع رقعة التعاون بين الأفراد، وتطور وسائل الإنتاج والتراكم المعرفي وانتشار التعليم وارتفاع مستويات الوعي تطور النظام الإجتماعي إلى الدولة. الدولة بجميع مؤسساتها واعمدتها تحكمها نظم وقوانين واضحة تعمل من أجل صالح المكون الأساسي لها وهو عموم الشعب، بجميع مكوناته الإجتماعية وخصائص هذه المكونات.

القبيلة لازالت موجودة في مجتمعاتنا العربية وتعتبر أحد مكونات المجتمع وإن تقلص دورها مع وجود خدمات الدولة ليتحول إلى  دور إجتماعي يتعلق بفظ النزعات  والمصالحة بين أفرادها أو رد الإعتبار والدعم المعنوي، وقد يكون لها دور مساند وداعم في حفظ توازن المجتمع والمحافظة على الهوية الثقافية له، كما أن لها دور ضمن حيز وجودها في دعم الأفراد وحل مشاكلهم بوسائل تدعمها وشائج القبيلة وترابطها. قد تكون للقبيلة ما ذكر من ايجابيات لخدمة الصالح العام، لكن سلبياتها تتعارض وتعيق قيام الدولة بمفهومها الشامل  القائم على خدمة الجميع بالعدل، وهي في هذا تشكل معول هدم أمام قيام الدولة الناجحة  .

ظل في مجتماتنا العربية  الولاء والإخلاص للقبيله ضرورة تفرضها حقيقة استمرار وجود القبيلة،  وما يتطلبه هذا الإخلاص ويحيط به من نصرة أفرادها والمساهمة في اعلاء شأنها بين باقي القبائل التي استمرت المنافسة بينها دائما وإن اختلفت في شكلها. استمرت القبيلة كذلك في التدخل في سياسة الدولة  إذا تعارضت أو أخرت مصالحها، بأشكال عديدة لتعرقل وظيفتها   أو تعيق قيام مؤسساتها وفق ولاءات قبلية  دينية كانت أم  ايديولوجية سياسية فرضتها رؤية اسيادها واملاءاتهم على أفرادها.

يقاس مؤشر النهضة بين الأمم بدرجة استقلال مؤسساتها بعضها عن بعض، مع عملها وفق الأدوار المناطة لها دون تداخلات خارج حيز القانون بحيث يصبح  النظام المتبع نظام أفقي  يسمح بتوزيع الأدوار حسب القوانين والتفاهمات المحلية أو الدولية الواضحة والتي تعمل من أجل صالح الفرد. وفي الدول الحديثة استعيض بدور القبيلة الإيجابي  بمؤسسات المجتمع المدني المستقلة،  وعن دورها السياسي بوجود الأحزاب المنظمة للحياة السياسية. في حين لازال القبيلة تعرقل قيام الدولة في مجتمعاتنا بعدة سلوكيات تفرضها الولاءات التي ظلت متلازمة معها دائماً.

لازالت  بعض من الدول العربية ومنها ليبيا تعاني ضغط القبيلة وإرادة اسيادها وتداخل الولاءات مع الممارسة السياسية لتصبح معيار للإختيار وفق مبدأ المحاصصة المنفلت من المعايير  المتعارف عليها في اختيار الوظائف السيادية لأي دولة. استخدم ثقل القبيلة أيضا في  التعبئة العامة وحشد الصفوف للدفاع عن ولاءات سياسية أو جهوية معينة ترتكز على مفاهيم تخدم مصالح سادة القبائل في التأثير في قرارات الدولة. كما أن تركيبها الهرمي جعل أفرادها يمارسون ذات السلوك أو ينقادون إليه داخل كافة المؤسسات من المدرسة إلى المصنع حتى أعلى سلم الدولة  ليدعم بعضهم البعض بما جبلوا عليه من ولاء لأفراد قبيلتهم يصعب الإنفلات منه.

قد يكون من الصعب نفض هذا الإرث أو التخلي عنه دفعة واحدة، ولكن ليس معنى هذا المضي بإصرار على نهجه والإستمرار دائما في انعاش وجوده. فالمطالبة بدولة المؤسسات والقانون والعدالة تتعارض مع ولاءات القبيلة المعتمدة كلياً على  سادتها وأعيانها وميراث عفا عليه الزمن  . البدء في تكوين مؤسسات الدولة سينهك كاهله، ويعيقه، الإستمرار بإستخدام مصطلح المحاصصة والفبيلة، وستولد  مؤسسات معاقة لن تصمد طويلاً مع اصرار الساسة على ادخال ولاءاتهم للقبيلة في  خضم بناء دولة ليبيا الجديدة التي نأمل أن تكون منظومة انسانية بالدرجة الأولى.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.