حرب بوتين في أوكرانيا.. دوافعها الجيوستراتيجية

حرب بوتين في أوكرانيا.. دوافعها الجيوستراتيجية

فاضل بن عاشور

دبلوماسي ليبي متقاعد

هل غزو أوكرانيا خطوة ضمن مشروع السوفيتية الجديدة؟ أم أنه أداة ضغط على الناتو والاتحاد الأوروبي؟ أم أنه رد فعل على اقتراب الناتو من أوكرانيا؟ أم مجرد جولة تأديبية لحكام أوكرانيا؟.

البحث عن الإجابة يتطلب عودة بالذاكرة إلى الحقائق والمتغيرات الجيوسياسية والإستراتيجية في النظام العالمي بداية بتفكك الاتحاد السوفيتي واستقلال جمهورياته السابقة وانهيار حلف وارسو وهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على مقاليد السياسة الدولية كقوة عظمى وحيدة بسطت نفوذها الجيوسياسي والاقتصادي والعسكري في أنحاء العالم، وتراجع دور روسيا الاتحادية ونفوذها كنتيجة لانهيار الاتحاد السوفيتي الذي كانت روسيا مركز الثقل فيه.

مرحلة التسعينيات وحتى مطلع الألفية الثانية قضتها روسيا الاتحادية شبه منكفأة داخل إطارها الإقليمي في ظل سياسة الانفتاح على الغرب الرأسمالي في صيغ جديدة للشراكة والتعاون الإستراتيجي الأوروبي والأطلسي، في حين توسع حلف الناتو شرقا ليضم دول من الجوار الجغرافي لروسيا الاتحادية والتي تشكل عمقها الإستراتيجي.

بعد تولي بوتين الرئاسة في روسيا الاتحادية وبالتحديد في فترة رئاسته الثانية بدأت بوادر التغيير في مبادئ وأهداف وأولويات السياسة الخارجية لروسيا الاتحادية تلوح في الأفق، وقد شكل ذلك نقطة تحول وعلامة فارقة في مجريات الحياة السياسية لروسيا الاتحادية.

عادت روسيا من جديد  تبحث لها عن دور محوري في محيطها الجيوسياسي الإقليمي، ودور فاعل مؤثر على مسرح السياسة الدولية في إطار التنافس الدولي على النفوذ في المناطق ذات الأهمية الإستراتيجية في العالم سيما الشرق الأوسط وشرق المتوسط وغيرها من المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية الغنية بموارد الطاقة والثروات المعدنية.

وكما شكلت مرحلة حكم الرئيس غورباتشوف مرحلة مفصلية في تاريخ الاتحاد السوفيتي الحديث والمعاصر في ظل سياسة البروتسرويكا والغلاغنوست التي مهدت الطريق إلى تفكك إمبراطورية موسكو، وخروج الدولة السوفيتية العظمى عن دائرة الفعل الجيوسياسي الدولي، فقد شكلت مرحلة حكم الرئيس بوتين مرحلة مفصلية ومنعطف تاريخي في التاريخ السياسي لروسيا الاتحادية بعودتها إلى دائرة الفعل الجيوسياسي كقوة رئيسية.

الرئيس بوتين والسوفيتية الجديدة

تبنى الرئيس بوتين إستراتيجية جديدة للأمن القومي لروسيا الاتحادية تهدف إلى تحقيق مصالحها الجيوستراتيجية الأمنية والعسكرية والاقتصادية بما يضمن استعادة دورها الإقليمي في محيطها الجيوسياسي ومجالها الحيوي انطلاقا من فضائها الأوروآسيوي الممتد من بحر البلطيق شمالا إلى البحر الأسود جنوبا.

ترجم بوتين إستراتيجيته على الأرض من خلال أزمات جورجيا وأوكرانيا وجزيرة القرم، التي استهدف من خلالها حماية الأمن القومي الروسي والمصالح الجيوستراتيجية لروسيا في مواجهة محاولات الاختراق الأمريكية الأطلسية الهادفة إلى توسيع حلف الناتو شرقا ليلامس الحدود الجغرافية لجوارها الإقليمي ومجالها الحيوي.

كذلك الأمر في مواجهة نشر الصواريخ الأطلسية في بعض بلدان أوروبا الشرقية خاصة ما عرف بالذرع الصاروخي (الأطلسي) في تشيكيا وبولندا بحجة التصدي للصواريخ الإيرانية، التي لقيت معارضة شديدة من جانب روسيا باعتبارها تُشكل تهديدا للأمن القومي الروسي.

المياه الدافئة والبوابة السورية

على مدى التاريخ شكل البحث عن منفذ للسفن الروسية إلى المياه الدافئة أو المياه الزرقاء الدولية، هاجسا لدى القادة والأباطرة الروس، وقد احتل وصول الأساطيل البحرية الروسية إلى المياه الدافئة أو “المياه الزرقاء العالمية” في البحار  (خاصة البحر الأسود والبحر المتوسط) والمحيطات والممرات والمضايق المائية (خاصة الممرات المائية التركية)، احتل مكانة بارزة ضمن العقيدة البحرية الروسية وأولوية عليا ضمن الإستراتيجية العسكرية البحرية الروسية، ويعد ضمان وجود دائم في قواعد وتسهيلات بحرية لسفن الأساطيل الروسية في البحر المتوسط، أهمية إستراتيجية قصوى وهدفا رئيسيا ضمن الإستراتيجية العسكرية البحرية الروسية.

التسهيلات البحرية للأسطول الروسي في  الساحل السوري في موانئ بانياس وطرطوس واللاذقية وغيرها، وضمان استمرار هذه التسهيلات، مسألة ضرورية ذات أهمية إستراتيجية فائقة استطاع بوتين الحصول عليها.

عودة روسيا إلى المشهد الدولي

من خلال البوابة السورية عادت روسيا إلى المشهد الدولي وإلى منطقة الشرق الأوسط بقوة كلاعب رئيسي في عام 2015 بحجة تقديم الدعم العسكري والمساعدات اللوجستية للنظام الشرعي في سوريا برئاسة بشار الأسد ولمحاربة الإرهاب والجماعات والتنظيمات المسلحة المتطرفة، وقد استخدمت لهذا الغرض كل أشكال التدخل العسكري على الأرض ودخول سلاح الجو وسلاح البحرية على الخط بواسطة الغارات الجوية وقطع الأسطول البحري الروسي في شرق المتوسط، ومن بحر قزوين بواسطة الصواريخ العابرة للحدود.

استطاع الرئيس بوتين أن يوظف المتغيرات الإقليمية والدولية لصالح تطلعاته بالعودة إلى لعب دور محوري في منطقة الشرق الأوسط عبر البوابة السورية مستغلا في ذلك تردد الرئيس الأمريكي باراك أوباما من خلال سياسة التدخل الحذر وعدم التورط في الحرب السورية، وفشل وإخفاق التحالف الدولي الأوروبي في تحقيق أهدافه العسكرية والسياسية، وتمسك الرئيس السوري بشار الأسد بالتحالف الروسي لإنقاذه من الهزيمة.

أولويات السياسة الخارجية الروسية

أولويات السياسة الخارجية لروسيا الاتحادية ضمن عقيدة بوتين، تركزت في تحقيق المصالح الجيوسياسية والاقتصادية لروسيا في العالم، والسعي من أجل عالم متعدد الأقطاب.

تحددت أولويات السياسة الخارجية الروسية بالدرجة الأولى في الجوار الجغرافي وتعزيز العلاقات والروابط بين دول الإقليم والسعي من أجل منع تمدد حلف الناتو، وفي منطقة الشرق الأوسط، وشمال إفريقيا ومنطقة غرب إفريقيا والساحل والصحراء سعت من أجل استعادة المراكز الجيوسياسية والاقتصادية والأمنية التي أقامها الاتحاد السوفيتي في بلدان العالم الثالث في إطار محاربة الرأسمالية والاستعمار والإمبريالية العالمية.

حظي الشرق الأوسط، بأهمية خاصة في السياسة الخارجية الروسية للرئيس بوتين ومكانة بارزة مميزة، ويعتبر الرئيس الروسي أن التدخل الخارجي الأمريكي سبب رئيسي في عدم الاستقرار في المنطقة، وتسعى الدبلوماسية الروسية في مقاربة برغماتية إلى بناء علاقات جيدة مع الجهات الفاعلة الرئيسية والمحافظة عليها بغض النظر عن انتماءاتها الإيديولوجية والسياسية.

أهداف السياسة الخارجية الروسية

أبرز أهداف السياسة الخارجية ضمن عقيدة بوتين التي يمكن استخلاصها من خلال إستراتيجية الأمن القومي لروسيا الاتحادية 2011 – 2020  في النقاط التالية:

  • استعادة دور روسيا العالمي
  • تعزيز دور روسيا في عالم متعدد الأقطاب
  • رفض الهيمنة الأمريكية
  • عدم السماح للغرب بتهميش دور روسيا في العلاقات الدولية
  • التعامل مع روسيا باحترام كقوة (عظمى) لها مكانتها ودورها العالمي
  • معارضة الإستراتيجية التوسعية لحلف شمال الأطلسي شرقا

عودة النفوذ الروسي الى شمال افريقيا

تعد قارة إفريقيا إحدى المحطات الجيوبوليتيكية ضمن عقيدة بوتسن لاستعادة الإرث السوفيتي، (سياسة إحياء السوفيتية الجديدة) لتحقيق مصالح وأطماع وتطلعات جيواقتصادية وسياسية، وتستخدم للوصول إليها أساليب القوة الناعمة وغير الناعمة، وتلعب الدبلوماسية الرئاسية ودبلوماسية مؤتمرات القمة، ودبلوماسية النفط والغاز وصفقات السلاح وشركات المهام الخاصة دورا محوريا في تحقيق أهدافها وغاياتها، وقد شكلت مصر بوابة عودة النفوذ الروسي إلى شمال إفريقيا وخاصة إلى ليبيا رغم أن العلاقات الدبلوماسية الروسية مع مصر وليبيا ظلت متواصلة تقريبا دون انقطاع في عهدي حسني مبارك ومعمر القذافي.

لقد تمكنت دبلوماسية بوتين البراغماتية من استعادة ما خسره الاتحاد السوفيتي من نفوذ جيوسياسي واقتصادي وأمني، وذلك من خلال توظيف المتغيرات الإقليمية والدولية واستغلال الظروف السياسية والأمنية خاصة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بعد انتفاضة الربيع العربي وتداعياته.

الخاتمة

عودة روسيا إلى مسرح السياسة الدولية كلاعب رئيسي وقوة إقليمية محورية تتطلع إلى اعتبارها قوة عظمى في إطار العلاقات الدولية من شأنه أن يحقق التوازن في موازين القوى الدولية ويقلل من المخاطر الجيوستراتيجية الناشئة عن تفرد قوة عظمى وحيدة وهيمنة القطب الواحد على مجريات ومقاليد السياسة الدولية، إلا أنها من جهة أخرى تحمل مؤشرات سلبية من شأنها إلحاق الضرر بمصالح دول أخرى وانتهاك سيادة هذه الدول وسلامتها الإقليمية تحت ذريعة حماية الأمن القومي والحقوق التاريخية والمصالح الجيوستراتيجية لروسيا الاتحادية، وانتهاجها مقاربات برغماتية نفعية تغلب مصالحها الجيوسياسية والاقتصادية وتطلعاتها الإمبريالية لاستعادة الإرث السوفيتي والنفوذ الاقتصادي والسياسي والأمني.

سياسة (إحياء السوفيتية الجديدة) لا تكتفي فقط بدخول روسيا إلى نادي الكبار، ولكنها تخفي ورائها رغبة جامحة في السيطرة والهيمنة واطماع في استغلال الثروات المعدنية وموارد الطاقة وغيرها من الموارد الطبيعية لشعوب أخرى، لتعويض خسائرها نتيجة المقاطعة الاقتصادية الأمريكية الأطلسية وغيرها، وهي في حقيقتها دوافع استعمارية لا تختلف عن دوافع غيرها من البلدان ذات الماضي الاستعماري مثل فرنسا وبريطانيا وإيطاليا.

المتغيرات الدولية الإقليمية وتقلبات السياسة الخارجية الأمريكية، شجعت الرئيس بوتين على المضي قدما في التمدد الجيوسياسي الإستراتيجي، وكسرت حاجز الخوف والتردد لدى العديد من رؤساء وملوك الدول التي تدور في الفلك الأمريكي مثل مصر والسعودية والإمارات وغيرها، على التقرب من روسيا والارتباط بها عبر شراكات وتحالفات عسكرية وتجارية.

أوكرانيا تعد بمثابة العمق الإستراتيجي بالنسبة لإستراتيجية الأمن القومي الروسي، ويظل السعي من أجل منع ارتماء أوكرانيا في حضن حلف الناتو، هدفا محوريا حيويا بالغ الأهمية لعقيدة بوتين الجيوسياسية والإستراتيجية، لا يمكن الاستغناء عنه أو التفريط فيه.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

فاضل بن عاشور

دبلوماسي ليبي متقاعد

اترك تعليقاً