ذكرى تغييب فقيد الوطن «منصور الكيخيا»

ذكرى تغييب فقيد الوطن «منصور الكيخيا»

من الحوادث المؤلمة التي ألمت بالمعارضة الليبية إبان حقبة نظام “القذافي” جريمة اختطاف وتغييب المناضل الكبير “منصور رشيد الكيخيا” الأمين العام للتحالف الوطني الليبي، والمعارض المحنك الذي يعد من أبرز دعاة الحوار الديمقراطي للمعارضة الوطنية.. وعرف بإنتهاجه أسلوب النضال السلمي في مواجهة النظام القمعي الذي حكم ليبيا لأكثر من أربعة عقود . “منصور الكيخيا” المثقف والحقوقي، ورجل السياسة الذي أُستمد من مواقفه الوطنية الصلبة قوة الحُجة والقدرة في مواجهة صلف النظام وهمجيته.

بتاريخ 10/ ديسمبر/1993م تم اختطاف “منصور الكيخيا” من وسط القاهرة بمصر، وعلى مدى عقدين من الزمن لم تفلح جميع الجهود التي قادها رفاق الكيخيا ومنظمات حقوق الإنسان العربية والدولية في الكشف عن مصيره، ومعرفة تفاصيل اختفائه القسري.. إلى أن انكشفت ملابسات الحادثة بعد قيام ثورة فبراير 2011م، حيث تم العثور على جثمانه في أحد المباني التابعة لأجهزة أمن “القذافي” بطرابلس.. بعد اعترافات مدير المخابرات للنظام السابق “عبدالله السنوسي” وإدلائه بمعلومات بشأن القضية تقول: بأن “منصور الكيخيا” تم اختطافه بأوامر من “القذافي” ونقله من مصر إلى ليبيا، وبقى سجينا لمدة أربع سنوات، وقد توفى لاحقا في ظروف غامضة سنة 1997م، وجريمة الاختطاف الآثمة هذه ليست الوحيدة التي قام بها عملاء “القذافي” في دولة مصر، بل سبقتها جرائم اختطاف وتغييب أخرى راح ضحيتها معارضين ليبيين.. لعل أبرزهم  “جاب الله مطر” و”عزات المقريف” اللذين اختطفا من مصر سنة 1990م وتم نقلهم عنوة إلى ليبيا ولم يُعرف مصيرهما إلى حد الآن.

ما الأسباب التي أدت لخطف منصور الكيخيا؟ وما هي توجهاته.. وعلاقته بنظام القذافي؟

ولد منصور رشيد الكيخيا في مدينة بنغازي سنة 1931م درس القانون بجامعة القاهرة وتحصل على ليسانس الحقوق سنة 1954م واصل تعليمه العالي في باريس حيث درس القانون الدولي في جامعة السوربون ، توظف في العديد من المناصب الإدارية والدبلوماسية.. منها/ تقلد وزيرًا للخارجية الليبية سنة 1971م – 19973م.. ممثلا لليبيا في الأمم المتحدة 1975م – 1980م.. أحد مؤسسي مركز دراسات الوحدة العربية.. أحد مؤسسي وعضو في مجلس أمناء المنظمة العربية لحقوق الإنسان.. عضو مجلس الأمناء في اتحاد الحقوقيين العرب.. عضو المجلس التنفيذي للمنظمة الدولية ضد التمييز العنصري.. عضو الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي.. الأمين العام للتحالف الوطني الليبي المعارض لحكم القذافي..

يعد “منصور الكيخيا” من الشخصيات المرموقة والمعروفة في الوسط الدبلوماسي والحقوقي العربي والدولي وله مساهمات فاعلة في معظم المحافل العربية والدولية، الشيء الذي جعل له مكانة وتأثيرًا بارزًا في مسيرة المعارضة الليبية.

تبدأ القصة المأساوية في مساء الجمعة 10 ديسمبر 1993م بالقاهرة.. في هذه الليلة خرج “منصور الكيخيا” من الفندق ولم يعد، لقد اختفى دون أي اهتمام أو متابعة من أجهزة الأمن للنظام المصري بالرغم من المطالبات العديدة من جهات حقوقية مصرية، وليبية، وعربية، ودولية بالكشف عن مصيره وفك طلاسم اختفائه، إلا أن التحقيقات في الحادثة انتهت دون تحقيق أي جدوى، وقيدت ضد مجهول.. إن من خطط لجريمة الاختطاف ونفذها هم أشخاص معروفون لدى أجهزة الأمن في النظامين الليبي والمصري في ذلك الوقت، وتم التستر عليهم لكونهم عملاء لمخابرات كلتا الدولتين.

كيف تمت عملية الاختطاف؟ وكيف وصل الكيخيا إلى ليبيا؟

في تحقيق نشرته بوابة الأهرام بتاريخ يوليو 2011م، وبالتعاون مع مصادر أمنية ليبية ومصرية، وعربية تم لملمت شتات القصة من حيث بدأت../ حاملا جواز سفر رقم” 8193109 ” وقادما من باريس حطت قدما “الكيخيا” أرض مطار القاهرة بتأشيرة دخول رسمية لحضور اجتماعات الجمعية العمومية للمنظمة العربية لحقوق الإنسان بصفته أحد مؤسيسيها وعضوها البارز.. في مطار القاهرة فاجأته الأجهزة الأمنية بالمطار باحتجاز جواز سفره واستجوابه على مدى ساعتين رغم صفته الدبلوماسية كوزير خارجية سابق ومكانته المعروفة بالأمم المتحدة، خرج منصور من المطار متعجبا مستاءًا من ما حصل.. ذهب إلى فندق سفير بالدقي حيث أقام في إحدى غرفه، وشارك بفاعلية في اجتماعات المنظمة العربية لحقوق الإنسان، ومن الصدف العجيبة أن كانت أهم مداخلاته أثناء الإجتماعات هي قضية حقوق اللاجئين السياسيين واستنكاره لقيام بعض الأنظمة العربية بترحيلهم وتسليمهم وربما الإعتداء عليهم أو خطفهم وتصفيتهم.

يقول تقرير سري لمباحث أمن الدولة بتاريخ 24/ 12 / 1993م تم توجيهه رسميا للنيابة المصرية ليكشف الحقيقة كاملة وبجلاء من الجانب المصري ويأتي نصف الحقيقة الآخر من الجانب الليبي.. جاء فيه: بالبحث والتحري حول واقعة اختفاء “منصور الكيخيا” وزير الخارجية الليبي السابق والمعارض للنظام الليبي توصل فريق البحث إلى أن المذكور دخل إلى البلاد عبر مطار القاهرة الجوي يوم 29/ 11 / 1993م قادما من باريس لحضور فعاليات مؤتمر الجمعية العمومية للمنظمة العربية لحقوق الإنسان الذي عقد بفندق سفير بالقاهرة ابتداء من يوم 30 / 11  وحتى يوم 9 / 12 / 1993م، وأقام بالفندق نفسه حتى صباح يوم اختفائه يوم 10 / 12 حيث غادر الفندق في تمام الساعة 10:30 صباحا بصحبة المدعو “إبراهيم البشاري” مندوب ليبيا لدى جامعة الدول العربية بالقاهرة واتجها إلى منزل “البشاري” بحي الزمالك بعد أن اتفق “البشاري” مع “الكيخيا ” أن يبيت لديه ليلة اختفائه لكي يسهل على الأول توصيله إلى مطار القاهرة حسب ميعاد الحجز الساعة السادسة صباحا للسفر إلى باريس 11/ ديسمبر كما أفادت المصادر أن ثلاثة أشخاص ليبيي الجنسية قد زاروا المدعو “إبراهيم البشاري” ليلة اختفاء الكيخيا، وغادروا المنزل فجر يوم 11/ ديسمبر دون أن يلاحظهم أحد، ومنذ مغادرتهم منزل “البشاري” لم يظهر “منصور الكيخيا” نهائيا بعكس إدعاء “البشاري” أمام النيابة بأن “الكيخيا” غادر منزله في الصباح متجها إلى مطار القاهرة.. وبتتبع السيارات الليبية التي كان يستقلها الليبيون زوار “البشاري” اتضح أنها سيارات تابعة للسفارة الليبية بالقاهرة وأنها وصلت إلى مرسى مطروح مساء يوم 11/ ديسمبر الساعة الخامسة لدى استراحة السفارة الليبية بمرسى مطروح، وكان في انتظارها سيارتان ليبيتان تابعتان للرئاسة الليبية تحمل لوحات أرقام (مراسم 2/ 227) و (2/ 21) النوع مرسيدس سوداء اللون، وغادرت السيارتان مقر الاستراحة الليبية بمرسى مطروح الساعة 7:15 متجهة إلى منفذ السلوم البري وعبرت إلى الأراضي الليبية الساعة 9:30 بقيادة السائقان الأول يدعى “محمد العبيدان” جواز سفر رقم (6355) طرابلس، والثاني يدعى “إبراهيم محمد الطبال” جواز سفر رقم (8554) طرابلس، ويرافق السائقين موظفان من السفارة الليبية بالقاهرة وهما “حسن خليل الرقيعي” و”فخري إبراهيم عبد السلام” وأكد مصدر بمنفذ السلوم البري أن السيارة رقم (2/ 21) كانت معتمة لا تظهر ما بداخلها نظرًا لكون زجاج السيارة ملون غامق ويُرجَح أن “منصور الكيخيا” كان بداخلها، والمعلومات تؤكد بأن تنفيذ المهمة تمت بالتنسيق بين مخابرات القذافي والسفير الليبي بالقاهرة ومندوب ليبيا لدى جامعة الدول العربية، والتقرير يؤكد ما يلي: أن المدعو “يوسف نجم” لم يكن آخر من التقى الكيخيا، بل هناك شخص آخر يؤكد التقرير أنه إبراهيم البشاري وهو ما يتفق مع أقوال الشهود والجمعيات الحقوقية الليبية.

إن “البشاري” هو الرأس المنفذ لاختطاف الكيخيا وقد لقى مصرعه فيما بعد في حادث غامض في 13 سبتمبر 1997م.. وعن رواية لأحد الشهود العيان في تلك الفترة بقاعدة جمال عبد الناصر بطبرق “العميد صقر الجروشي” آمر القاعدة آنذاك.. فقد أفصح عن ما لديه من معلومات، يقول: في أحد أيام ديسمبر 1993م وصلت طائرة بوينج 707 تابعة للخطوط الليبية قادمة من طرابلس وأخبره المسئولون الأمنيون أنها في انتظار شخص هام جدًا، وقال أنه لم يخرج أحد من الطائرة حتى وصلت سيارة مراسم نوع مرسيدس وخرج منها شخص موثوق اليدين وتم اقتياده للطائرة وقام مسئول أمني بإجراء مخابرة هاتفية وقال: “الهدية” وصلت وهي في طريقها إليكم.. وذكر العميد الجروشي أنه استفسر من أحد الضباط المرافقين “للهدية” عن ماهية الشخص المقيد.. فأجابه: إنه “منصور الكيخيا”.

ختامًا.. عند حدوث واقعة الاختفاء الغامض للمعارض “منصور الكيخيا” من وسط القاهرة كانت كل الدلائل تشير إلى تورط نظام “القذافي” في هذه القضية، فلا أحد له مصلحة في عملية اختفاء معارض كبير مثل “الكيخيا” غير النظام الليبي الذي يُكن له العداء.. وكنا كغيرنا على يقين بأن من قام بهذا الفعل المشين هم عملاء “القذافي” بمصر ما في ذلك شك، وأن مصير الرجل بات بيد عصابة النظام التي دأبت لسنوات طويلة على استمالته لصفها تارة بالترغيب، وأخرى بالترهيب.. ولثباته على مواقفه ورفضه التنازل والرضوخ لطلبات الطاغية وأعوانه قاموا باختطافه ونقله عنوة إلى ليبيا، والزج به في أحد المعتقلات حتى لقى حتفه.. إنها جريمة متكاملة الأركان وبكل المقاييس، اختطاف وتصفية حسابات سياسية دون مراعاة للقوانين وأبسط مبادئ حقوق الإنسان.

وبعد أن انكشفت الحقيقة وزال الغموض عن فاجعة الاختطاف والقتل لفقيد الوطن “منصور الكيخيا” ومعرفة من خطط، ونفذ لهذه الجريمة النكراء.. نتسائل متى تتحقق العدالة في هذه القضية باعتبارها مقصد شرعي وقيمة أخلاقية.. أم سيبقى مطلب مقاضاة الجناة بعيد المنال؟!.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

اترك تعليقاً