لقد مر أسبوع على رحيل الصديق الأستاذ الدكتور المنصف بن سالم وزير التعليم العالي والبحث العلمي التونسي السابق عن هذه الدنيا بعد صراع طويل مع المرض الذي بدأ منذ سنوات التعذيب في سجون بن علي قبل الثورة والذي اشتد به في السنة الأخيرة من حياته الحافلة بالعطاء عالما ومناضلا ورجل دولة.

الدكتور بن سالم هو عالم رياضيات مبرز واستاذ جامعي ومناضل وسياسي تونسي سجن وعذب وحرم من العمل والسفر والحركة منذ آواخر الثمانينيات وحتى قيام الثورة التونسية.

تشرفت بالتعرف على الدكتور بن سالم في أول زيارة رسمية لي إلى تونس عام 2012 عندما كنت وزيرا للتعليم العالي في الحكومة الليبية الإنتقالية. وقعنا خلال تلك الزيارة اتفاقية تعاون بين بلدينا في مجال التعليم العالي بما في ذلك تبادل المنح الدراسية، وتباحثنا في عدد من الأفكار حول مشروعات مستقبلية تعليمية وبحثية مشتركة بين ليبيا وتونس، وبعد انقضاء مدة الحكومة الليبية الانتقالية ومغادرتي الوزارة زارني الدكتور المنصف في  طرابلس في 2013 اثناء زيارة رسمية له إلى ليبيا في تلك السنة، كما التقينا في عدد من المؤتمرات السنوية التي بدأت في تنظيمها سنويا “مجموعة المهندسين التونسيين بأمريكا الشمالية” والذي ربطتني بمؤسسيها صداقة قديمة منذ أيام الدراسة بالولايات المتحدة. ورغم قصر المدة التي عرفت فيها الدكتور بن سالم، إلا أن صداقة حميمة نشأت بيننا وكأننا عرفنا بعضنا لعقود طويلة. ولقد لمست في الدكتور المنصف منذ لقائنا الأول وفي الأعوام القليلة التي تلته الإنسان المناضل الصادق، المحب والمخلص لوطنه وأمته، والذي اختلطت فيه بقايا مشاعر من الحزن والألم بمشاعر الفرح وعودة الأمل بانتصار الثورة، والمؤمن المتحلى بالصبر والرضا وبالعزم على مواصلة العمل الدؤب من أجل رفعة وطنه وشعبه وأمته، هذه المرة من خلال مهمته الأخيرة كوزير في أول حكومة تونسية منتخبة بعد الثورة.

ولد المنصف بن سالم في الأول من فبراير 1953 وبدأ مسيرته الدراسية في تونس وتحصل على بكالوريس في الرياضيات عام 1974 من الجامعة التونسية، ثم واصل دراسته في فرنسا حيث تحصل على عدد من الشهادات في الهندسة والفيزياء والرياضيات توجها بدكتوراة في الفيزياء النظرية عام 1976 وعمره حينئذ لم يتجاوز 23 سنة ودكتوراة الدولة في الرياضيات عام 1980.

درَّس الدكتور بن سالم في الوكالة الجامعية الفرانكوفونية في بلجيكا وكندا، وكان أستاذا زائرا في جامعة ماريلاند بالولايات المتحدة وكذلك في المركز الدولي للفيزياء النظرية في إيطاليا، وهو عضو في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، واتحاد الفيزيائيين والرياضيين العرب.

اعتقل الدكتور بن سالم في 26 نوفمبر 1987 بتهمة إنتمائه لحركة النهضة، وحكم عليه بعشرين سنة قضاها بين السجن والإقامة الجبرية، وتم فصله، وبأمر رئاسي، من الجامعات التونسية ومنعه من التدريس فيها. في 30 مارس 2006 دخل هو وعائلته في إضراب عن الطعام إثر قرار الجامعة بطرد ابنه أسامة مع اثنين من رفاقه من الجامعة على خلفية تنظيم مظاهرة طلابية.

لقد لخّص الدكتور بن سالم معاناته تلك بوصفه لما كان يتعرض له من اضطهاد بقوله إن  ”ما يجري معي أمر يتجاوز الخيال وهو فوق القدرة على الفهم والتفسير … إنهم ببساطة يحكمون علي بالموت.“

بعد نجاح الثورة التونسية في 2011 خاض الدكتور بن سالم انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في أحدى دوائر صفاقس وفاز بمقعد في المجلس عن حركة النهضة وتم تعيينه في نفس السنة وزيرا للتعليم العالي والبحث العلمي في حكومة السيد حمادي الجبالي ثم في حكومة السيد علي العريض حتى 29 يناير 2014. ثم ما لبث أن أشتد به المرض حتى توفاه الله في 24 مارس 2015 مخلفا وراءه وطنا واعدا لأن يكون أول ديمقراطية حقيقية في المنطقة العربية وملهما ورائدا لنهضتها المنشودة.

لقد كان الدكتور بن سالم كفاءة علمية متميزة، يحق لتونس ولنا نحن العرب والمسلمين أن نفخر به ونأسف لما تعرض له هذا العالم من ظلم واضطهاد حال بينه و بين مواصلة عطائه العلمي وبالتالي حرمان بلده وأمته والإنسانية من موهبة لا تتكرر كثيرا، و لا نملك وقد فارقنا الدكتور المنصف الدار الآخرة إلا أن نقف اكبارا لهذا العالم الجليل والمناضل الفذ على عطائه وتضحياته وصبره وقوة إيمانه بقضيته، سائلين المولى عز وجل أن يتغمده برحمته وأن يشمله بواسع مغفرته وأن يدخله فسيح جناته وأن يلهم أهله وأحباءه جميل الصبر ويعظم لهم الأجر، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.