ظاهرة التكفير والتفجير

ظاهرة التكفير والتفجير

د. عيسى بغني

أكاديمي مهتم بالشأن الليبي

خلال تاريخ ليبيا الطويل لم تشهد هذه البقعة من الأرض ظاهرة إباحة دماء المدنيون كما نراه الآن، والذي تمثل في العديد من العمليات الإنتحارية آخرها تفجير مقر تدريب الشرطة بزليتن، كانت معظم الثورات متجهة نحو الحاكم المستبد، بداية من العهد الروماني والفينيقي إلى ولاة بني أمية وبني عباس، ونهاية بالإستعمار الإيطالي  والحكم الجمهوري الدكتاتوري البائد.  جذور العنف الجماعي الأعمى حديثة العهد، وهي مرتبطة بالتغيرات التي حدثت في الشرق الأوسط في بداية السبعينات، وما تلا ذلك من بروز تيارات ما كان يسمى (بالصحوة الإسلامية). كانت الصحوة رد فعل للتفسخ الإجتماعي على مستوى العالم في فترة الستينات من ناحية والشعور بالإحباط من تخادل وضعف وبؤس الأنظمة الشمولية وعلى رأسها هزيمة 5 يونيو 1967م، ولقد إنظم إلى التيارات الإسلامية في ذلك الوقت ألاف الشباب جلهم من الطبقات الفقيرة المعوزة ومدن الصفيح.

كان هناك مصدرين أساسيين للتنظير الفلسفي لقوى الصحوة، أحدهما أفكار الشيخ سيد قطب والتي وضعها في كتابه “معالم في الطريق” بعد عودته من أمريكا، وهي أفكار تتلخص في تكفير المجتمع تبعاً لمفهوم أن  (الناس ليسوا مسلمين كما يدعون وهم يحيون حياة الجاهلية . ليس هذا اسلاما وليس هؤلاء مسلمين). تبنت المجموعات الجهادية هذا الفكر في نهايات السبعينيات من القرن الماضي، وقد بدأت تحديداً في مصر، حين تشكلت مجموعات جهادية تهدف إلى قلب أنظمة الحكم في العالم العربي، وكان كتيب شهير معنون بـ”الفريضة الغائبة”، بمثابة الدليل لتلك الحركات؛ يقول مؤلفه المصري الجنسية، محمد عبد السلام فرج، إن المسلمين “يلتزمون بكثير من الفرائض الدينية، لكنهم غيبوا فريضة أساسية وهي الجهاد”. ودعا فرج إلى أولوية قتال “العدو القريب” – ويقصد به الأنظمة الحاكمة في الدول ذات الغالبية المسلمة – على قتال الأعداء الخارجيين، أو “العدو البعيد”. ومثل الجهاديون في تلك الحقبة نمطاً انقلابياً أكثر من أن تكون حركة ممتدة، وبذلك تم إغتيال الرئيس المصري محمد أنور السادات عام 7198م.

بالمقابل كان هناك الفكر السلفي النجدي بقيادة أئمة تنتمي إلى المذهب الحنبلي؛ منها فتاوي الشيخ أحمد بن عبد الحليم بن تيمية المتوفي سنة 726هجرية، وكذلك عديد من أفكار الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي المتوفي سنة 1206 هجري، ومن فقها السعودية المعاصرن؛ المفتي الراحل الشيخ محمد ابراهيم ال الشيخ في فتواه المشهورة بتكفير الانظمة العلمانية الحاكمة في العالم العربي، وتلميذه الشيخ الراحل حمود بن عقلا الشعيبي الخالدي 1346-1422هجرية أبرز من أيد هدم طالبان لتماثيل بوذا. هذا لا يمنع ظهور فرق سلفية أقل تشددا مثل السلفية العلمية على يد بعض العلماء المحدثين.

تلاحمت أفكار السلفية مع أفكار سيد قطب في تنظير فكر القاعدة مرحلياً، ثم تبلور في فكر جديد عرف بالسلفية الجهادية، وأصبح لهذا الفكر دعاة ومريدون وممولون وداعمون في شتى الدول الإسلامية. بعد دحر القوات السوفيتية في أفغانستان حاول حاملوا هذه الأفكار نقلها إلى بلدانهم،  ومن هذا الفكر كانت القاعدة في المغرب الإسلامي وبوكوحرام، وداعش والنصرة وأنصار الشريعة وغيرها، وفي ليبيا كانت الجبهة الليبية المقاتلة التي بدأت بتكوين جبهة مقاتلة في أواخر سنة 1995 ميلادي في درنة بمجموعة من الشباب العائد من أفغانستان وإنتهت سنة 1999م بقتل أو سجن جلهم.

تتخذ السلفية الجهادية شعارات لتبرير تصرفاتها، منها الزعم بأنها الطائفة المنصورة والفرقة الناجية التي ذُكرت في الحديث النبوي ” تنقسم أمتي إلى ….”، ومع التكفير الجماعي للمجتمع تنتهج أساليب العنف المسلح لفرض أرائها من أجل إقامة الدولة الإسلامية وإسترجاع الخلافة، وبذلك يتم رفض التعامل مع الحكومات، سواء بالتحالف أو المشاركة أو حتى المهادنة، وفي سبيل تحقيق السلفية الجهادية لأهدافها، تقوم على العداء لفكرة الدولة ورابطة المواطنة والهوية الوطنية، ذلك انها ايديولوجيا عابرة للحدود وتتعاطى مع فكرة الامة بوصفها كياناً سياسيا وجغرافيا جامعاً، وهذه الأممية الإسلامية تساعد على جلب مريديها وقياداتها من شتى الدول الإسلامية.  خلال السنة الماضية أعلن مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة أن أكثر من 5500  تونسي يقاتلون ضمن الجماعات الجهادية في سورية والعراق وليبيا واليمن ومالي. ويتولّى الجهاديون التونسيون أدواراً قيادية في الحركات الجهادية في سورية والعراق. بعد هجوم سوسة، أعلن رئيس الوزراء التونسي أنه تم منع 15   ألفاً تونسي  من السفر للانضمام إلى الجماعات الجهادية، علما بأن الكثير من التفجيرات التي حدثت في ليبيا، كانت من مواطنين توانسة ينتمون للسلفية الجهادية في سرت، منها تفجير فندق كونتيننتال، وتفجير مركز تدريب الشرطة بزليطن وتفجير بوابة الدافنية، وتفجير السفارات بطرابلس وغيرها.

والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن، ما الفرق بين السلفية العلمية (اللاعنفية) والسلفية الجهادية؟؟ خاصة وأن السلفية الجهادية لا يوجد لها علماء كبار تنسب لهم أفكارها، وتقتصر مصادر أفكارها على دعاة ومرشدين روحيين قد لا يرقوا إلى صف الفتوى، أمثال أبي محمد المقدسي وعبد القادر بن عبد العزيز وأبي قتادة الفلسطيني، وتركي بن علي، وصالح العويض، وغيرهم.  والسؤال الثاني لماذا يبرز عنف السلفية الجهادية في دولة دون أخرى؟؟؟

للإجابة عن السؤال الأول أن الكثير من الجدل أثير حول الموضوع منها هل السلفية الجهادية أو داعش جذورها سلفية أم أنها خليط متشدد من مذاهب عدة (يسميهم علماء السلفية العلمية بالخوارج)، ويمكن الإسترشاد برأيين مهمين من عشرات المقالات حول الموضوع، أولاهما قول الشيخ  الكلباني إمام الحرم المكي في تغريدة له أن داعش نبتة سلفية، وبناء على ذلك قام الكاتب السعودي منصور بن تركي الحجلة بعقد مقارنة بين السلفية النجدية (كما جاء بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب)  والسلفية الجهادية[1]، ووجد أنهما يلتقيان في تسعة عشرة مسألة عقدية مهمة، أوجز بعضها؛ (1) الأصل في وجود الجهاد (القتال) لوجود الكفر، وليس رد الإعتداء والظلم، (2) الأصل في الكافر حل دمه، وليس تحريم قتل النفس، (3) تكفير الديموقراطية (أنها حكم الشعب وليس حكم الشريعة) (4) تكفير القوانين الوضعية، (5) تكفير من يتعامل مع الكفار، (6) القول بأن من لم يُكفر الكافر فهو كافر، (7) تكفير الأنظمة وقيادتها، (8) رفض النظام الدولي والمشاركة فيه، (9) القول بتكفير النصارى، (10) الطموح إلى إرجاع الخلافة، (11) عدم التسامح مع المختلف بل معاقبته على بدعته، (12) الإيمان بأنها الفرقة الناجية والهيمنة الفكرية على المخالفين.  ……… وغيرها، وربما الفارق الكبير بين السلفية العلمية والجهادية أن الأولى لا تبيح تفجير نفس الفاعل وتعتبره إنتحار، في حين تعتبره الثانية أسلوب لإرهاب (الكفار).

وبذلك نرى ليس هناك إختلاف كبير بين الفئتين، ولكن نعود إلى السؤال الثاني لماذا يستخدم العنف عند السلفية الجهادية ولا يستخدم عند السلفية العلمية؟ إن السبب الأساسي وراء ذلك هو النضوج الفكري عند السلفية العلمية ووجود علماء كبار يبتعدون قليلا أو كثيرا عن التشدد في الأفكار السابقة، وخاصة مسالة التكفير، ومسألة تفجير النفس لقتل المخالفين، في حين أنهم  يصفون الجهاديين بالخوارج لأنهم بالغوا في تطبيق أحكام التكفير والردة على المسلمين.

هناك أمر آخر مهم في مسألة إستثمار الفكر السلفي الجهادي المتشدد، وهو وجود إدارة تقوم بتجنيد وتدريب وتأطير الشباب من صغار السن المحبط إجتماعيا أو سياسيا أو المعدم إقتصاديا للإنخراط إلى مشروع الدولة وتمويل إحتياجاتهم ووضع خطط تنفيذية لهم، وهذه الإدارة قام بها رجالات وضباط صدام في العراق وبعض رجالات وضباط القذافي في ليبيا، وربما رجالات الأسد في سوريا،  أي أن برنامج الدولة الإسلامية بمفهوم السلفية الجهادية يتكون من ثلاثة عناصر أساسية: فكر جهادي متشدد، وشباب غر متحمس، أستقطب من الداخل أو جلب من الخارج، وإدارة تقوم بسرقة المصارف والحقول النفطية والحرابة على الطرق العامة، وبيع أملاك الدولة وجمع الأموال من المواطنين، على أمل ان يكون هناك موارد من تصدير النفط كما في العراق وسوريا.

أخيرا يتطلب مجابهة هذا التيار كسر إحدى الحلقات الثلاث السابقة بعدة طرق منها:-

أولاً: تفعيل برنامج المصالحة الوطنية من أجل إبعاد رجالات العهد السابق عن مشروع داعش وتجفيف منابع التمويل، ويكون ذلك بإلغاء قانون العزل السياسي والإبقاء على قانون النزاهة، بالإضافة إلى المكاشفة والمحاسبة والتعويض.

ثانيا: معالجة مشاكل الشباب من ناحية إيجاد فرص العمل والإهتمام بهم وتوفير مناشط لهم وإدماجهم في المجتمع، وخاصة العائدين من جبهات  القتال في سوريا والعراق أو الذين خاضوا الحروب أيام حرب التحرير، وقد يتطلب الأمر المعالجة النفسية الجماعية للأفراد المتأثرين من المواقف السابقة.

ثالثا: معالجة مشكلة الثقافة من حيث حضر الدعاة الغير مصرح لهم بإلقاء الخطب أو فتح جمعيات خيرية أو دعوية، ومنع توزيع المناشير والمطبوعات التبشيرية والتكفيرية في الجهات العامة وخاصة المساجد، وتحديد المجال الإيداعي (أف أم) بتراخيص من الدولة، وإلزام هذه الإذاعات بعدم التبشير أو التبليغ  بمواد إذاعية يوجد بها التحريض أو العنف أو الإستقطاب إلى مذاهب معينة، مثل الخطب المسجلة لبعض الخطباء المحرضين، والأناشيد الدعوية الموجهة، علما بأن بعض الإذاعات المسموعة تبث خطب ودروس جميعها مستوردة من السعودية ولا يوجد بها مادة ليبية قط، مثل صوت السلف التي تعمل على إحداث بلبلة داخل الوطن.

رابعا: المهنية في مقاومة الإجرام بشتى أنواعه، وذلك من خلال وجود جهاز إستخبارات ومباحث قوي تابع لوزارة الداخلية، وقوى تحري مدربة تدريباً جيداً، وعدم التهاون في تنفيذ اوامر الضبط الخاصة بحراسة مرافق الدولة والمحافظة على سلامة المواطنين.


 

[1] – منصور الحجلة ، منتدى العلاقات الدولية، هل داعش نبتة سلفية؟

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. عيسى بغني

أكاديمي مهتم بالشأن الليبي

اترك تعليقاً