فن الاحتيال السياسي

فن الاحتيال السياسي

ا.د. محمد بالروين

أستاذ العلوم السياسية وعضو الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور

“السياسة, عند المُحتالين, هي فن الاحتيال”.

الاحتيال السياسي هو “عملية الوصول” بما هو متاح إلى ما هو مدموم او ممنوع, وهو اداة يستخدمها بعض السياسيين لإستغلال المواطنين وخداعهم ﻟﻠﺤﺼﻮﻝ علي ﻣﻨاﻔﻌهم الخاصة. بمعني اخر, هو ﺍﺳﺘﺨﺪﺍﻡ ﺍﻟﺨﺪﺍﻉ والكذب والاستغلال ﻟﻠﺤﺼﻮﻝ ﻋﻠﻰ ﻣﻨافع شخصية ﺩﻭﻥ ﻭﺟﻪ ﺣﻖ.

الصفات

لعل من أهم صفات المُحتال: 

1. الخداع

بمعنى أن المُحتال انسان مُخادع يستخدم ذكاءه ﻟﻠﺤﺼﻮﻝ ﻋﻠﻰ ﻣﻨافعه ﺩﻭﻥ ﻭﺟﻪ ﺣﻖ, ويقوم بخداع ضحياه عن طريق استخدام الحنكة والاستعطاف وبناء الثقة لدى الضحايا لخداعهم. فالسياسي المُخادع يستثمر في ضحياه, ويقضي وقتاً في درستهم, والتدريب لإثقان فن خداعهم. فهل يُعقل, علي سبيل المثال, ان احد جلسات المجلس التشريعي استمرت لإكثر من سنتين مُعلقة, لا لشيء الا ان رئاسة المجلس لم تستطع الحصول علي النصاب القانوني للجلسة! وهل تصدق ان المجلس التشريعي قام بتعديل الاعلان الدستوري أحد عشر مرة, مند 2012, بالرغم من انه لم يتحصل ولو لمرة واحدة علي شرط الثلثين + واحد (اي 134 من 200 عضو) التي أشترطها الاعلان الدستوري! وهل يُعقل, ان يقوم المجلس التشريعي بإصدار قوانين أساسية في جلسة مُعلقة لم يحضرها الا أقل من اربعين عضواً من اصل 200 عضو, وان يتم اعتماد القانون الاساسي بأغلبية بضع وعشرين عضوا!.

(2) التقمس

بمعنى المُحتال يقوم بمحاولات الاحتيال عن طريق انتحال شخصيات وادوار مختلفة, وتجده يحاول لعب دوره بذكاء مما يجعل ضحياه يصدقون ما يقول. والمحزن أن أكثر هؤلاء الضحايا من المواطنين البسطاء, والمحتاجين الذين يتعاملون بحسن النوايا، فيكونون بذلك الفريسة الأسهل. بمعني آخر, المُحتال يعرف جيداً نقاط ضعف ضحياه, ويعرف كيف يلعب على أوتار مشاعرهم, وفي الاغلب يجد ضالته في المجتمعات التي يتفشى فيه الفقر والجهل والمرض ويعمها الفساد ويغيب فيها القانون. فهل يُعقل, علي سبيل المثال, ان يدعي سياسي ما انه “مدني,” رغم انه لم يلتزم باي مبدأ من مبادي الدولة المدنية, وتجاهل الاعتراف بمبدأ “التداول السلمي علي السلطة” والاكثر من ذلك انه لا يحترم مبدأ “الراي والراي الاخر!”.

(3) الكذب

بمعنى المُحتال هو شخص كذاب. وفي العادة, لا يوجد نصاب لا يعتمد على الكذب والتمويه وخلط الأمور والتدليس على ضحياه. وهذه الآفة المرضية اجتماعياً, تشجع المُحتال علي عدم احترام القوانين, وعدم الوفاء بالعهود والوعود مهما كانت مقدسة, او حتي لو كان من الذين يدعون القداسة. فهل يُعقل, علي سبيل المثال, ان يُرشح سياسي ما ويقدم نفسه في الانتخابات علي انه مستقل (أي غير حزبي), ومجرد ان يفوز يكشف علي انتماءه الحقيقي ويسعي لتشكيل  كثل حزبية ويعتبر ذلك ذكاء؟ أليس هذا كذب وأحتيال؟.

(4) النرجسية

بمعنى المُحتال انسان نرجسي بطبعه, ومعجب بذاته, ولا تهمه الا نفسه, ويعتبر أن ما له من ذكاء ومهارات ومكانة اجتماعية تُعطيه الحق في الاستغلال والإستيلاء على حاجات وحقوق الأخرين. ويعتقد دائما انه الافضل والأذكى والأعرق بل وحتي الأقرب إلى الله. وهذا الشعور يقوده الي غياب معنى الضمير, أو الاحساس بالاخرين, او الشعور بالذنب. فهل يُعقل, علي سبيل المثال, ان يترفع سياسي ما علي من أختاروه, ويدعي ان مشروعيته قد إكتسبها من “شرعية الامر الواقع,” وبذلك اصبح له الحق ان يقرر متي يترك منصبه, وكم من الاموال يجب علي المجتمع ان يدفع له, ويعتقد فوق كل ذلك انه صمام الامان لوحدة البلد, وانه ضرورة لإعادة إقامة الدولة, وليس هذا فقط بل يصف كل من يحاول انتقاده علي انه انسان يحتاج الي التوعية ولا يدرك ما  يدور حوله.

الأدوات

من أهم واخطر أدوات الاحتيال السياسي:

أولاً: الترضية

هي سياسة تقوم علي تقديم تنازلات سياسية أو مادية لخصوم معينين او لقوات معادية في سبيل تجنب المواجهة او النزاع معها. بمعني اعطا الخصم ما يريد لكي يرضى عنك. والحقيقة ان التجارب التاريخية السابقة تُشير الي فشل هذه الاداة في تحقيق أهدافها, ولعل خير مثال هو فشل ” سياسة الترضية مع النازية التي اتبعها تشامبرلين رئيس وزراء بريطانيا (1937-1940) وهاليفكس وزير خارجية بريطانيا (1938-1940),… ودفعت سياسة الترضية بهتلر – خاصة بعد عدم احتجاج بريطانيا – إلى ضم ألمانيا للنمسا.

ثانيا: الشراء

بمعني امتلاك الذمم والولاءات, وهي ظاهرة ينبذها العقل, وتبغضها النفس, ويكرهها كل انسان حر وسوي, ويمكن اعتبارها مشكلة اجتماعية وسياسية تعاني منها اغلب الشعوب والمجتمعات, وهي علة وجدت عبر التاريخ. وبواسطتها استطاع أغلب الحكام تقريب الفقهاء والعلماء إلى جانبهم والاستفادة منهم, وذلك بالاغداق عليهم بالأموال والهدايا والجوائز, وتشجيعهم علي التنظير للسلطتهم وشرعنة أعمالها. وهناك اساليب عديدة لشراء الدمم والولاءات لعل من اسواها اعطاء العمولات للوسطاء, والرشوة, وآفة شراء اصوات الناخبين.

وحول ‘آفة شراء اصوات الناخبين,” تقول الاستادة غنيمة النصار, في مقال لها بعنوان “ظاهرة شراء الأصوات في الانتخابات, “كلما حلت الانتخابات البرلمانية في الكويت، … اصبح لعمليات الشراء اشكال والوان، وطرق واساليب يبدو فيها التفنن والحرفية والحرمنة، على سبيل المثال، يباع صوت الناخب او الناخبة، مقابل تذكرة سفر، ونفقات العمرة، وتخليص معاملات في المرور، والغاء غرامات المرور، ونقل الموظفين من وزارة الى وزارة، او إلحاق العاطلين بالوظائف، او تقديم الساعات الثمينة، والهواتف النقالة، وتجهيز الديوانيات بالاثاث وشاشات البلازما، ودفع اشتراكات لمشاهدة مباريات كأس العالم، وشراء الحقائب وعطور للنساء، او حتى دفع مبالغ نقدية، تصل من 500 دينار الى 1000 دينار، الى 2000 دينار كويتي، والشعار المرفوع هو ‘شيلني واشيلك’.

أما في العراق فقد اتهم زعيم تحالف “فتح” الأمين العام لمنظمة بدر, هادي العامري , في انتخابات 2021, جهات سياسية لم يسمها بأستخدام المال السياسي في شراء الذمم للتصويت إلى قوائمها الانتخابية ومرشحيها للانتخابات التشريعية… واستطرد بالقول “مع الاسف اليوم المال السياسي يُستخدم في كثير من المناطق وفي كركوك بالذات لشراء الذمم”.

أما موقع سكا نيوز فقد علق علي الانتخابات العراقية لسنة 2021 بالقول: “مع بدء العدد التنازلي للانتخابات البرلمانية في العراق، بدأت تبرز على السطح ظاهرة شراء الأصوات تحت ستار يطلق عليه “البطاقات الانتخابية”…. سعت قوائم انتخابية لشراء الأصوات عبر ما بات يعرف بــ “البطاقة الانتخابية”، وهي عبارة عن آلية يعتمدها السماسرة تقوم على أخذ ما يشبه التعهد من الناخب بالتصويت لقائمة ما ويستلم نصف المبلغ. ويتم تسلم بقية المبلغ بعد إجراء الانتخاب، بعد أن تتأكد الجهة من أن عملية التصويت تمت كما هو متفق عليه،… ويتراوح سعر البطاقة الانتخابية الواحدة بين 50 إلى 150 دولار،… فالمبالغ المطروحة تُعادل نصف المدخول الشهري للمواطن العراقي”. … وحسب أسعار الأصوات الانتخابية المنتشرة، فقد يصل مجموع ما يمكن أن يدفعه المُرشح الي حولي نصف مليون دولار…”(سكا نيوز, 2021).

ثالثا: التجاهل

بمعني التجاهل هو عدم الاكتراث والاهتمام لما يقوله الخصوم والنقاد, ودون أن يبالي المُحتال بالعراقيل والمواقف وكلام الناس من حوله. بمعنى اخر, في بعض الاحيان, تجد المحتال لا يُظهر اهتمامًا كثيرا بما يقوله خصومه والمخالفين لرايه مهما كانوا صائبين, ويعمل علي تركهم والانصراف عنهم للقيام بعمله وكأن شيء لم يكن.

وانا هنا لا اعني ما يُعرف بالتجاهل الايجابي الذي ينطلق من مبدأ ان “أرضاء الناس غاية لا لتذرك, وانه من ضرب المستحيل أن يحبك جميع الناس,” ولا أعني مجرد السلوك الذي يصدر من البعض تجاه آخرين مدّعين عدم الانتباه لهم أو الاهتمام بهم، أو تجاه بعض الأمور في الحياة متظاهرين بعدم وجودها أو تأثيرها على حياتهم. ان الذي أعنيه هو صمت السياسي المتعمد, وإدعاءه عدم السمع أو الرؤية في بعض الأحيان لآمور مهمه ومعقدة وخطيره مما قد يتسبب بتفاقمها وخروج الأمور عن السيطرة, لا لشيء الا انها لا تخدم اغراضه ومصالحه الشخصية, ويعتقد انه بتجاهلها ستزول وتتلاشي.

الخلاصة

المقصود بالمُحتال السياسي هو الشخص الذي يسعي جاهدا الوصول الي اهدافه باستخدام كل ما هو متاح ومباح من اجل الوصول إلى ما هو مدموم او ممنوع, والسياسية بالنسبة له هي عبارة عن “فن الاحتيال.” وعليه علي اي مجتمع يريد ان ينهض ويبني دولته الحديثة ان يفهم ما هو الاحتيال السياسي, ولماذا يحدث, وكيف يمكن التخلص منه والقضاء عليه. وهذا يتطلب التركيز على مصداقية ما يُقال من قبل أي سياسي أو اي مؤسسة تقدم عرضا أو معلومة سياسية. وعلي الجميع ان يتذكر بان مبررات نجاح الاحتيال السياسي هو قلة الوعي والانتباه لكل ما يدور في المجتمع. وعليه علي المواطن ان يعي بان آفة الاحتيال السياسي قد أصبحت اليوم وسيلة للكسب السريع والغير المشروع للكثير من السياسيين والمثقفين والمتعلمين, ولابد من محاربة هذه الآفة الخطيرة والضارة والتخلص من كل هؤلاء المحتالين السياسيين, لكي نستطيع إعادة بناء الدولة التي يحلم بها الجميع.

مرة أخرى, لا تنسوا يا أحباب ان هذا مجرد راي أعتقد انه الصواب…

فمن أتى براي أحسن منه قبلناه, ومن اتي براي يختلف عنه أحترمناه.

والله المستعان.

د. محمـد بالروين

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

ا.د. محمد بالروين

أستاذ العلوم السياسية وعضو الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور

اترك تعليقاً