لعبة الأرقام.. وحتمية الانسداد الدستور

لعبة الأرقام.. وحتمية الانسداد الدستور

ا.د. محمد بالروين

أستاذ العلوم السياسية وعضو الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور

يقول السيدات والسادة أعضاء “كتلة الـ 9”, أحد تكتُلات ما كان يُعرف بـ “لجنة التوافقات” في المادة (76) من مُقترحاتها الآتي:

“يتألف مجلس الشيوخ من عدد ثمان وسبعين عضوا (78) ينتخبون بالاقتراع العام الحر السري المباشر عن طريق الانتخاب الفردي, علي ألا يقل عمر الناخب عن ثماني عشرة سنة ميلادية. ولأغراض تطبيق هذا النص، توزع المقاعد بين المناطق الانتخابية الثلاث وفق الآتي:

  1. المنطقة الأنتخابية الغربية (طرابلس) 32 عضوا،
  2. المنطقة الأنتخابية الشرقية (برقة) 26 عضوا،
  3. المنطقة الأنتخابية  الجنوبية (فزان) 20 عضوا.

على أن يشمل ذلك ضمان تمثيل المكونات الثقافية واللغوية بواقع عضوين عن كل مكون، ويراعى التوزيع الجغرافي للمقاعد داخل كل منطقة انتخابية. وذلك كله وفق ما يحدده القانون.”

الحقيقة ان هذا “المُقترح” من السيدات والسادة الأعضاء يُتير العديد من الأسئلة والاستفسارات التى لا يسع المجال للتعاطى مع جميعها في هذه المساحة المحدودة. ولعل من المناسب ان يقتصر حديتى هنا علي أشكاليات ثلاث هي (1) ما يمكن ان أطلق عليه بـ “الأشكالية العددية؟!” (2) أشكالية الدوائر الانتخابية, و(3) أشكالية أتخاد القرار.

أولا: الأشكالية العددية

بمعني علي أي أساس قام هؤلاء السيدات والسادة بأختيار هذه الأرقام؟! واذا كانوا قد استخدموا ما يُعرف بـ “الانحراف المعياري” , فالسؤال هنا: ما هو “المتوسط العددي” الذي انطلقوا منه في حسابهم لهذه الانحرافات؟ وكيف تم أختيار ذلك؟ وما هي درجة “الانحراف المعياري” التى تم أستخدمها , ولماذا؟ وما هي أسبابهم ومبرراتهم للقيام بكل ذلك؟ وهل فعلا ان هذه الارقام التى تم إختيارها تساوي قيمتها الحقيقية؟

من منظور آخر وطالما ان مجلس الشيوخ يمثل الجغرافيا, فلماذا تم رفض الرجوع (كحل مؤقت علي الأقل) الي نظام العشر (10) محافظات (بدلا من الثلاث أقاليم) الذي تم تطُبقه في ليبيا من 1963 الي بداية التسعينات؟ أو الرجوع الي نظام الــ اثنين والثلاثين (32) شعبية الذي تم تطُبقه في ليبيا من 2001 الي 2007، أو الرجوع الي نظام الــ أثنين والعشرين (22) شعبية الذي تم تطُبقه في ليبيا من 2007 إلى 2011. وعلي ان يكون توزيع المقاعد في مجلس الشيوخ متساوي بين هذه المحافظات أو الشعبيات؟! أليس هذا أحسن وأعدل من تطبيق أسلوب الانحراف المعياري بطريقة غير كاملة!!!

الغريب فيما تقدم به السيدات والسلجة أعضاء هذه الكتلة، انهم لم يقدموا لنا أي “مُذكرة شارحة” لمُبرراتهم وأسبابهم في اختيارهم لهذه الأرقام والتصنيفات وعدد الدوائر الإنتخابية!!! والاغرب من كل ذلك هو عدم معرفة الاسباب التى علي أساسها قاموا برفض المقترحات الآخري التي قُدمت  لهم من زملائهم أعضاء الهيئة من خارج لجنتهم؟!

ثانيا: أشكالية الدوائر الانتخابية

أما الاشكالية الثانية التى يجب علي أعضاء هذه الكتلة شرحها وتبريرها للمواطن الكريم هي: ما هو المقصود بــ “المناطق الانتخابية” التي تتحدت عليها هذه المادة؟! بمعني هل يقصد هؤلاء السيدات والسادة بالمناطق الانتخابية الثلاث –  طرابلس، برقة، وفزان. أي المناطق التاريخية الثلاث التى كانت موجودة قبل تعديل دستور المملكة عام 1963؟  والتي كانت حدودها كالآتي:

أم انهم يقصدوا بها المناطق الانتخابية الثلاث – طرابلس، برقة، وفزان، وفقا لتقسيم الدوائر الأنتخابية الــ 13 لإنتخاب أعضاء المؤتمر في 2012، وايضا إنتخاب أعضاء مجلس النواب في 2014؟ والتي هي حدودها كالآتي:

أم أنهم يقصدوا بها المناطق الانتخابية الثلاث – طرابلس، برقة، وفزان، وفقا لتقسيم الدوائر الأنتخابية الــ 11 لإنتخاب أعضاء الهيئة التاسيسية في 2014؟ والتي حدودها كالآتي:

العجيب هنا ان هذا المُقترح لم يحدد لنا بوضوح أي المناطق الأنتخابية الثلاث التى سيتم أستخدامها في توزيع مقاعد مجلس الشيوخ؟ وعلي أي أساس سيتم هذا الاختيار؟ وهل هذا الاختيار دائم أم مؤقت؟ ولماذا أشترط هذا المُقترح ضمان تمثيل المكونات الثقافية واللغوية بواقع عضوين عن كل مكون؟ وما المقصود بـ “المكونات” هنا التى يجب ان يضمن لها الدستور عضوين؟ وعلي أي أساس تم اختيار هذا العدد, أي لماذا عضوين فقط لكل مكون؟ وهل يشمل مصطلح المكونات في هذا المادة المكونات الاخري غير أخوتنا الأمازبغ والطوارق والتبو التى تم ذكرها في الاعلان الدستوري؟ بمعني آخر, هل يشمل هذا المصطلح كل المكونات الآخري (غير العربية مثلا) الموجودة في الوطن مثل أخوتنا الأواجلة , والقريتلية , وتاورغاء , والشراكسة , والكراغلة وغيرهم؟

ثالثا: أشكالية أتخاد القرار

أما الاشكالية الثالث التى يجب علي أعضاء هذه الكتلة شرحها وتبريرها هي: يبدو من القراءة الاولي لما ورد في مُقترح المادة (76) ان بعض المناطق الأنتخابية قد تحصلت علي مقاعد أكثر في مجلس الشيوخ من المناطق الآخري كنتيجة لإستخدام المعيارية! ولكن السؤال هنا: ماذا يعني هذا؟ بمعني: هل هذا يعني ان منطقة طرابلس مثلا التي تحصلت علي 32 مقعد من مقاعد مجلس الشيوخ، هي اكثر قوة وتأثير من برقة وفزان؟ وبالاسلوب المعاكسيمكن القول: هل منطقة فزان التي تحصلت علي العدد الأقل من المقاعد في المجلس (أي 20 مقعد فقط)، هي أضعف منطقة؟

من الوهلة الاولى، يبدو ان ذلك صحيح! أي ان أقليم فزان هو أضعف كتلة في مجلس السيوخ! ولكن في الحقيقة ان العكس هو الصجيح!!! فكتلة فزان في الواقع هي الأقوي في المجلس!! ولكي تتضح هذه الصورة أكثر , دعونا ننظر لمُقترح المادة (80) والمتعلقة بــ “نصاب الانعقاد وآلية أتخاد القرارات.” تنص هذه المادة على الآتي:

“لا تعتبر جلسات المجلس صحيحة إلا بحضور الأغلبية المطلقة لأعضائه المنتخبين. وتتخد القرارات بشأن المسائل المنصوص عليها في المادتين (90 , 91) بذات الاغلبية، علي ان يكون من بينهم ثمانية أعضاء علي الاقل من كل منطقة أنتخابية.”

فماذا تعني هذه المادة؟ وهل فعلا ان القرارات في هذا المجلس ستُتخد بالأغلبية المطلقة (أي بنصف مجموع الاعضاء زائد واحد) كما تنص هذه المادة؟! الحقيقة ان هذا غير صحيح! وذلك لان آلية أتخاد القرار هنا هو ما يمكن ان أطلق عليه بــ “الأغلبية المطلقة المشروطة!! بمعني أشتراط ان يكون من ضمن هذه الأغلبية  المطلقة ثمانية أعضاء علي الاقل من كل منطقة أنتخابية. وبمعني اخر ان أي أغلبية آخري مهم كان عددها، اذا لم يتحقق بها شرط الثمانية لن تستطيع أتخاد أي قرار!!! تصور معى علي سبيل المثال لا الحصر، ان كل أعضاء منطقة طرابلس الـ 32، وكل أعضاء منطقة برقة الــ 26، ومعهم أيضا 7 أعضاء من منطقة فزان، هؤلاء جميعا لن يستطيعوا أتخاد قرار بالرغم من ان مجموعهم يُشكل 65 عضو (أي 83.3% ) من مجموع أعضاء المجلس!! لماذا؟! لان “شرط الثمانية” لم يتحقق في هذه المعادلة!! بمعني لم يكن من بينهم ثمانية أعضاء علي الاقل من منطقة فزان!!! فهل يُعقل ان تتخد القرارات بهذه الكيفيةا؟! وهل هذا هو الوطن الذي نحلم ان يعيش فيه أبناءنا مُتساوون وسعداء؟! وهل هذا هو معني العدالة وتكافؤ الفرص التى نؤكد عليها في كل مكان في مشروعنا للدستور المرتقب؟!! بالتأكيد: لا!!

واذا نظرنا الي مفهوم “الأغلبية المطلقة” التى نص عليها مُقترح هؤلاء السيدات والسادة من منظور آخر, هب ان سيداتنا وسادتنا أعضاء منطقة فزان الــ 20 قرروا هذه المرة ان يتحالفوا مع أعضاء منطقة برقة الــ 26 وأن يقنعوا 7 أعضاء من طرابلس ليصوتوا معهم علي مشروع قانون ما, فان هؤلاء ايضا بالرغم من انهم يمثلون 53 عضوا من مجموع أعضاء المجلس الــ 78 (أي الــ 3/2 + 1) لن يستطيعوا القيام بذلك لانهم يحتاجوا الي ثمانية أعضاء علي الاقل من منطقة طرابلس!!!

فهل بعد هذه الامثلة البسيطة (وغيرها الكثير) , يمكن القول ان الارقام الي ذكرت في مُقترح المادة (76) تعني أي شيء؟! وهل حقا تحمل نفس الوزن والثقل السياسي؟! أم انها مجرد لعبة من لعب الأرقام التى يطلق عليه بعض الاحصائين “لعبة كيف تكدب بالأرقام.” والاهم من كل ذلك هو: هل بأستخدام هذه اللعبة الرقمية يمكن تحقيق مفهوم “التمثيل السياسية المناسب” علي اساس الجغرافية الذي نسعي له جميعا؟ وهل بهذا التقسيم يمكن ان نبني وطن يسع الجميع؟!

يا سادة, يا كرام، وببساطة شديدة جدا، إن ما تطرحونه في مُقترحاتكم هو “تعقيد للمُبسط” وليس حلا للإشكال، وسيقود حتما لإنسدادات دستورية لا حصر لها!!! وستكون السيطرة فيه لا محالة، ليس “للأغلبية المطلقة” ولا “لإغلبية الثلثين زائد واحد” ولا حتي للــ “84% من عدد أعضاء المجلس”، وانما لكل من يُتحقيق “شرط الثمانية أعضاء من كل منطقة أنتخابية!!” بمعني أخر, بغض النظر عن الأغلبية, فإن:

13 عضو فقط من منطقة فزان يستطيعوا إيقلف أي مشروع قرار لا يلبي رغباتهم! و19 عضو فقط من منطقة برقة يستطيعوا إيقلف أي مشروع قرار لا يلبي رغباتهم! و25 عضو فقط من منطقة طرابلس يستطيعوا إيقلف أي مشروع قرار لا يلبي رغباتهم!

فهل يُعقل هذا يا أحباب؟! وهل فعلا تعتقدوا اننا نستطيع ان نبني وطن بهذه المعادلات الخاطئة؟!! باتأكيد لا.

أخير, أليس من الاجدي والاحسن، اذا كنتم مُصرين علي الرجوع لـ فكرة “الثلاث الاقاليم”، فلماذا لا نقوم بالرجوع (كحل مُؤقت علي الأقل) الي تبني الفصل السابع المُعنون بــ (مجلس الامة، وتحديدا المواد: 93 الي 140) من دستـور لـيبيـا [الذي أصدرته الجمعية الوطنية الليبية في 7 أكتوبر 1951، وتم تعديله في 1 يناير 1963، وألغاه الإنقلابيون في أول سبتمبر 1969]، مع ضرورة إعادة صياغة بعض المواد وإستبدال دور”الملك” بدور “رئيس.” هذا في أعتقادى سيحل أشكاليات كثيرة وخصوصا أشكاليات التمثيل الجغرافي، وتركيبة المجلسين، وايضا أشكالية آليات اتخاد القرارات. وفي اعتقد ايضا ان هذا الحل هو أحسن وأفيد وأنسب حل للواقع التعيس الذي يعيشه شعبنا المظلوم هذه الايام.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

ا.د. محمد بالروين

أستاذ العلوم السياسية وعضو الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور

اترك تعليقاً