ليبيا الدولة.. بين الحقيقة والوهم

ليبيا الدولة.. بين الحقيقة والوهم

د. عبيد الرقيق

باحث ومحلل سياسي ليبي

ليبيا هذه الرقعة الأرضية التي تتوسط شمال قارة إفريقيا، ذات الموقع الاستراتيجي الهام، والتي تتربع على ساحل بطول حوالي 2000 كم على الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، ها هي الآن تعاني تحت وطأة فوضى عارمة أصابتها منذ 2011 عندما انتفض الشباب تماهيا مع انتفاضات ما سمّي بـ”الربيع العربي” في تونس ثم مصر، بمطالب شرعية مداها تحسين الوضع المعيشي والإقتصادي لعموم الشعب الليبي، والتي أدت إلى إسقاط النظام السابق وتنحيته عن الحكم بالقوة وبمساعدة دولية قام بها حلف الناتو.

ليبيا اليوم تعيش حالة من الفوضى السياسية العارمة في ظل انقسام واضح بين الفرقاء الليبيين نتيجة تراكمات أكثر من عشرة سنوات كاملة بين مد وجزر وتقارب وتباعد حد الاقتتال، وإلى هذه اللحظة لا يمكن بحال من الأحوال أن تصنّف بأنها “دولة” بالمفهوم الحقيقي حيث أنها لا تزال تحت أثر البند السابع من مجلس الأمن وفقا للقرار 1973 ما يعني أنها لم تسترجع عافيتها واستقرارها أمنيا وسياسيا بعد وأن العالم مازال يرى فيها قصورا كبيرا وانحرافا عن مقتضيات الدولة بالمفهوم الرسمي.

هذا يعني أن ليبيا حتى الآن لا يمكن تصنيفها موضوعيا بالدولة وأقصى ما يمكن إطلاقه عليها أنها “شبه دولة” أو أقل من ذلك، وأن ما هي عليه الآن مجرد مسميات صوريّة وهميّة، فلا توجد حكومات فعلية ولا رئاسات، وأن كل المؤسسات تعمل بنظرية الأمر الواقع، الذي هو مرتبط وثيقا بمن يملك القوة على الأرض، والتي تحتكرها مجموعات مسلحة استطاعت أن تسيطر على السلاح بعد سقوط النظام السابق من المعسكرات والمنشآت العسكرية والتي تنتشر في طول البلاد وعرضها، تحت أطر قبلية وجهوية وعقائدية، وقد استطاعت أن تجد لها موطء قدم في العاصمة حيث تتواجد المؤسسات السيادية من مصرف مركزي ومؤسسة النفط وغيرها بالإضافة إلى الاجسام الصورية التي تمثل الحكومات المتعاقبة وما يسمى بالمجلس الرئاسي.

الذي يثيرني هو أن من تقلّدوا المناصب في ظل هذه الظروف الفوضوية، من حكومات متعاقبة بعد 2011م، يعيشون حالة وهم كبير، إذ يعتقدون أنهم يحكمون فعلا في دولة راسمة وحقيقية، ولذلك يحاولون خداع أنفسهم وغيرهم بأنهم مسئولون وذووا شأن، وهم في الواقع مجرد طواطم متحركة وبيادق لا تملك من أمرها شيئا، فالأمر كله بيد الميليشيات المسلحة وبيد بعض السفراء الأجانب الذين يستقوون بهم، للأسف هم يدفعهم الطمع الرخيص والجشع لتحقيق مصالحهم الآنانية ولا يدركون أنهم مجرد أدوات عابثة، كل همها جمع المال من خلال الاختلاس والتزوير وممارسة سريّة وعلنيّة للفساد.

كل ذي بصيرة يدرك جيدا أن ليبيا اليوم مجرد اسم، ولا تمتلك من مقومات الدولة الحقيقية إلا الأرض والشعب، بل أنه حتى الأرض صارت مهددة من الجيران شرقا وغربا وجنوبا، وأن الشعب أيضا صار مهددا في مكوناته من خلال موجات من البشر تتدفق كل يوم، منها بهدف الاستيطان ومنها بهدف العبور إلى أوروبا، ليبيا اليوم منتهكة السيادة على أراضيها وحدودها ومنقوصة الإرادة في قراراتها، وأن من يتحكم فيها وفي مصيرها اليوم عبارة عن مجموعة من العصابات مدعومة داخليا من الميليشيات المسلحة، وخارجيا من سفراء بعض الدول النافذة، وأن هذه العصابات لا تسعى إلا بمقدار ما تحققه من مصالح ذاتية على حساب المصلحة العامة التي هي مغيّبة تماما ومحجوبة.

بعد 11 سنة من عمر انتفاضة فبراير ليبيا تبدو لكل ذي بصيرة وعن قرب مجرد دولة وهميّة كرتونية تتحكم فيها عصابات نفعية استمرأت وتخندقت خلف ترسانة القوة التي تمتلكها ميليشيات مسلحة بعد أن تم التزاوج المصلحي بينهما وفق قاعدة دعهم يسرقون ويختلسون ودعنا نتقاسم معهم المال ونمتلك القرار ونعربد كيفما شئنا! إن المؤسف حقا هو استمرار هذا العبث وعدم توقفه ما يعني أن تبعات ذلك ستكون وخيمة في المستقبل القريب عن مركز ليبيا المالي والاقتصادي ما سيعرضها لانتكاسات كبيرة يصعب معالجتها سريعا وسيكون لها كبير الأثر على مستقبل ومصير البلد.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. عبيد الرقيق

باحث ومحلل سياسي ليبي

اترك تعليقاً