مستقبل ليبيا فوق الشخصيات والمصالح

مستقبل ليبيا فوق الشخصيات والمصالح

د. محمد المفتي

طبيب وناشط سياسي مستقل، ومؤلف في التاريخ الاجتماعي الليبي.

في أواخر رمضان تناولت والشيخ محمد بوسدرة وأصدقاء آخرين الإفطار مع الدكتور محمد المقريف، في بيت شقيقه الحاج مصطفى في بنغازي. وبعد الإفطار تحدثت مع د. المقريف كصديق حول إمكانية دخولي معركة الترشيح لرئاسة الحكومة. وكان أن شجعني، قائلا لو كان الأمر بيده لكنت أول خياراته.

توكلت على الله، وسافرت إلى طرابلس، والتقيت بالكثيرين من أعضاء الكتل السياسية داخل المؤتمر الوطني  والمستقلين. وشاركت في احتفال ذكرى تحرير طرابلس بميدان الشهداء. والتقيت بأصدقاء ونشطاء في العاصمة والجبل الغربي والجنوب. وكان من بين من التقيت بهم، الصديق الأستاذ محمد كانون، من أعيان طرابلس، ومناضل سياسي ذي تاريخ طويل. وتحمس كانون للموضوع، وأبدى استعداده لتأييدي، قائلا أنه ليس لدى طرابلس إسم سياسي تقدمه لمعركة الرئاسة، وأن نخبة طرابلس ليس لها رغبة وكل ما يريدونه هو الاستقرار وعودة الحياة الاقتصادية.

قمت بزيارة ودية للدكتور صوان رئيس حزب العدالة ممثل حركة الإخوان المسلمين في المؤتمر الوطني.  واتصل بي الأستاذ عصام الماوي رئيس التيار الوطني وعضو تحالف القوى الوطنية، الذي وعد بترتيب لقاء بيني وبين د. محمود جبريل. لكن ذلك لم يتحقق.  وفي ما بعد تحدثت مع صديق مشترك، لترتيب لقاء مصارحة مع الدكتور محمود، لأنني أردت أن أقول له أن عليه أن ينسحب ولا يرشح نفسه. فالتوجه السائد بين الكثير من  الكتل السياسية بالمؤتمر مضاد لجبريل شخصيا، رغم أنه مؤهل وفق التقاليد البرلمانية أن يكلف بأول محاولة لتشكيل حكومة. وبالمقابل إنني أرى ضرورة مشاركة ممثلين عن التحالف في الحكومة، بحكم ما نال مرشحوهم من أصوات في الاقتراع العام وما لديهم من مقاعد في المؤتمر الوطني.

وبوم الجمعة قبيل الظهر، اتصل بي رفيق السجن وأحد أعيان  يفرن، ورجل المصالحات الوطنية الأستاذ سالم مادي وقلت له أنني أنوي تقديم نفسي كمرشح مستقل لا أنتمي إلى أي كتلة أو حزب، لأنني أسعى لتشكيل حكومة وحدة وطنية. وكان جالسا إلى جانب الدكتور المقريف، الذي التقط التلفون ودعاني لمرافقته إلى زليتن التي شهدت صدامات الليلة السابقة، وقبلت دعوته وذهبت إليه بمقر إقامته. لم تتحقق الرحلة لاعتبارات أمنية .. وهناك أيضا التقيت بمستشار الدكتور المقريف للشئون الخارجية، الدكتور فتحي نوح، من أبناء الخمس ومهندس طاقة نووية، رجل خلوق وذكي والمهم أنه صريح وشفاف دون مناورات.

في تلك الأيام جاءتني اتصالات من كثيرين، يدعونني إلى الانسحاب، بل وإلى دعم الدكتور مصطفى بوشاقور. والتقيت فعلا مع الرجل في فندق المهاري. لماذا؟ لأنهم يريدون تعويض “طرابلس” عن خسارة مقعد رئيس المؤتمر. وأيضا ونصحني البعض بالالتحاق ببوشاقور لقاء منصب وزاري، وهو عرض قابلته بالرفض، وداخليا بكثير من الإزدراء، حتى عندما ارتفع الإغراء إلى منصب نائب رئيس وزراء. رفضت لأنني لم أكن أبحث عن منصب بقدر ما يهمني تطبيق برنامج للخروج بالبلاد من نفق التعثر والقصور.

وهكذا توالت الاتصالات، واللقاءات، وبكثير من التفاهم، وبعض الوعود، وكثير من المجاملات الخلب. وتقدمت للترشيح، وعرضت برنامجي أمام المؤتمر الوطني كما عرض غيري .. ثم كان الاقتراع، الذي منح المستقلين صوتا صوتا، لأن الكـتـل البرلمانية كانت مهووسة بتحشيد بقية الأصوات لمواجهة محمود جبريل.

عدت إلى بنغازي وكتبت مقالا بعـنوان ‘‘الربح والخسارة في انتخابات الوزارة’’ (14/9/2012) .. ومما جاء فيه ‘‘وداعا حكومة الكيب …  ومرحبا حكومة بوشــاقور! .. فهما وجهان لعملة واحدة .. أو بمصطلح البيولوجيا الحديثة أن الوزارة الجديدة ستكون على الأرجح مستنسخ للوزارة السـابقة ، بقدر كبير من العجـز والقصور الذاتي بلغة المهندسين. لكن علينا ألا نستعجل، فربما فاجأنا بوشـاقور؟ غير أن الجوهر واحد .. باق كما هو .. حكومة تفضل الإدارة المألوفة .. وبالتالي غير حاسمة’’ .

ثم  تساءلت في المقال : عما إذا كان بالامكان تحديد التوجهات العامة للحكومة القادمة؟  وأجبت: ‘‘ .. يرى البعض أنها ســتـكون مركزية.. وهكذا كانت دائما سمة الحكومة .. فهي لا ترى أبعد من حدود تاجوراء وقرجي وطريق المطار  ..  الحكومة الجديدة، سـتفتقد لرؤية بعيدة النظر .. ولهذا قد تراوح في مكانها دون ابتـكار حلول جســورة’’.

  وخلصت إلى فقرة بعنوان من الخاسر إذن؟ ، وأجبت ‘‘ ……. ستخسر الدواخل، باستمرار التهميش والإهمال .. برقة ، والجنوب وحتى الجبل الغربي ، وسوف تستمر المواجهة والشكاوى بينها وبين العاصمة / الدولة. وستخسر الجماعات الثقافية من أمازيغ، وطوارق، وتبو. وستستمر المواجهة والشكوك بين تشــكيلات الثوار والدولة ’’.

ذلك ما قلته وقاله غيري، قبل أكثر من أسبوعين من إعلان الوزارة المقـتـرحة. ولم يخيب توزيع الحقائب توقعاتي .. وأذكر أنني حين قلت أن الحكومة ستكون قصيرة النظر أثار عليّ ذلك سخط بعض معلقي الإنترنت بأسمائهم المســتـعارة التي تتيح لهم حتى الشتيمة مكيلين لي التهم بأنني متحيز ضد طرابلس، التي ألفت عنها كتابا بعنوان “الأيام الطرابلسية” وألفت عن زعيمها السعداوي الكتاب الوحيد طيلة نصف قرن منذ وفاته… لكن هاهي الحكومة المقترحة تجاهلت حتى الزاوية المناضلة وزوارة الثورة ونالوت الصمود.. وكلها تقع في حدود دائرة قطرها 150 كيلومتر، لا أكثر !

وفي مقال لاحـق بعنوان “إنقاذ من ؟ ” نشرته على الإنترنت وفي بعض الصحف  23 / 9 / 2012  عن مظاهرة ” جمعة إنقاذ بنغازي” ختمته بالفقرة التالية: ‘‘وعلينا أن نسـمع أيضا صوت من رأوا أن أولوية الاحتجاج  أن يوجهوا غضبهم ويهتـفـوا ضــد استشراء الفساد والفشل المحزن للدولة. ولهذا علي الحكـومـة الجـديدة أن تـسـارع في تنـفـيـذ برامج إعادة إعـمار ليبيا، والمصالحة الوطنية، وتأمين حدودنا، وإنعاش الاقتصاد .. وانجاز المساكن وتوفير القروض لكي نـزرع الأمل في أفق شـبابنا.. ونقتلع أحاسيس الغضب والرغبة في الانتـقـــام. نحن بحاجة ليس فقط لإنقــاذ الاقتصــاد، بل وإلى إنقاذ المصـالحة الوطنية، وإنـقــاذ مســتــقـبل ليـبــــيا’’.  وها نحن نواجـه أزمة تهدد مستقبل البلاد، نتيجة عدم استعداد البعض للتنازل عن مصالحهم الشخصية.

تفاقمت الأزمة، وأنا أتابعها عبر الإنترنت ونشرات الأخبار .. ولم أستطع السكوت. فبعثت إلى الصديق الدكتور فتحي نوح الإيميل بعنوان “حتى لا ترتطم السفينة  بالصخور” (  يوم 27 / 9 / 2012 ) قلت فيه : ‘‘ .. عسى أن تنجحوا في تجاوز الأزمة الحالية المتشعبة .. لكن ذلك يبدأ من مراجعة كثير من القناعات والرؤى مراجعة صريحة وجــادة ..’’.

وفي إيميل تالي قلت : ‘‘ .. إنني أشعر بالشفقة على الدكتور بوشاقور .. لكنني لم أقتنع أبدا أنه سيكون قادرا على تشكيل حكومة. وحتى لو فعل فإنها لن تستمر طويلا… فهل يا ترى كنتم في دعـمكم له، أسرى ولاء لصـداقة قديمة ؟ ’’

ويوم  2012-10-03أعلن الدكتور مصطفى أبوشاقور ا  وبعد تقديمه لأسماء الوزراء انسحب اغلب اعضاء المؤتمر الوطني من قاعة المؤتمر للتعبير عن عدم رضاهم للتشكيلة التي خالفت التوقعات .

يوم الاربعاء 2012-10-03 قال الدكتور أسامة كعبار ان مجلسي الشورى والمحلي لمدينة الزاوية اجتمعوا مساء اليوم الأربعاء وأبدوا إعتراضهم على تشكيلة حكومة الدكتور مصطفى ابووشاقور لأنها حكومة جهوية تم إختيارها على اساس الولاءات والأقارب والترضيات والمصالح والعلاقات الشخصية ، وأوضح ان آهالي الزاوية سيتجهون غداً الخميس لمبنى المؤتمر الوطني العام للمطالبة بإقالة هذه الحكومة .

وضحى يوم الخميس   2012-10-04-  اقتحم متظاهرون من مدينة الزاوية مقر المؤتمر الوطني العام يطالبون بإقالة الدكتور مصطفى ابوشاقور وحكومته المقترحة.

صباح الخميس اتصلت بالحاج سالم مادي ثم بالدكتور فتحي نوح  ، وقلت لهم أن يبلغوا الدكتور المقريف بأن ليبيا كلها في خطر .. وأن لابد من مراجعة كاملة للخيــارات ووضع خطة عمل سريعة، وإلا فإن البلاد سـتدخل حالة من الفوضى لا تحمد عقباها.

وفي لقاء تلفزيوني مساء الخميس، قلت التالي:

  • أولا أنا لن أتحدث عن شخصية الدكتور بوشاقور ، فالناس تشوف فيه ويعرفونه عبر التلفزيون ، ولهم حق الحكم عليه.
  • ثانيا دعونا نعترف بأن اقتحام المؤتمر الوطني عمل غير لائق، فالمؤتمر له حرمته، وهـو أعلى سلطة في الدولة.
  • لكن بالمقابل علينا أن نعترف بحق أهل الزاوية في الغضب. الزاوية العظيمة بجهادها. الزاوية التي وقفت في وجه الطاغية، وانكسرت ثم نهضت، ودفعت ثمنا باهضا وكان دورها محوريا في إسقاط دولة القذافي .. الزاوية غرب طرابلس وبها النفط وعبرها خطوط الاتصال مع تونس ، وبالتالي كان للزاوية ونالوت دور أساسي في تضييق الخناق على الطاغية .. والزاوية ونالوت أفشلتا مخططات القذافي مبكرا في تقسيم ليبيا. فهل نبخل عليهما بحقائب وزارية ؟
  • إذن  ما العمل ؟
  • أعتقد أن بوشاقور وحكومته هم الآن فعل ماضي. في خبر كان. رغم أن رئاسة المؤتمر كانت حريصة على منحه فرصة! متناسية أن المشكلة ليست مشكلة أشخاص أو تغيير أوراق الكارطة، بقدر ما هي غياب الرؤية السديدة وبعد النظر.
  • السيد بوشاقور فـشل في شهر أن يجمع قائمة وزراء مقـنعة،  فهل يريد أن يقنعنا أنه قادر على تجميع فريق خلال ثلاثة أيام؟ شهر كامل ولجنة فـرز وسير ذاتية ، ثم يتمخض الجبل فيلد ماذا؟ أو كما علق صديق: بائـع الدلاع فـقـط يسرع إلى خلف العربة ليقـدم لك دلاعة حمره، إذا لم تعجبك الأولى.
  • إذن نحن بحاجة إلى حكومة وحدة وطنية يشارك فيها الجميع .. حزب العدالة والتحالف الوطني.. الخ. وخروج بوشاقـور وقائمته أمسى تحصيل حاصل.  لكن هناك مشاكل شخصية في ما يبدو. ولهذا أنا أناشد الدكتور محمود جبريل أن يتراجع من المشهد فهذا هو القرار الذي تمليه الحكمة ومصلحة الوطن، بعيدا عن المماحكات والمناورات .. وأن يضع نواب التحالف أصواتهم لمرشح مستقل يحظى بثقة المؤتمر. عندها نستطيع أن نبدأ في تشكيل حكومة وحدة وطنية وتتحرك عجلة الدولة.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. محمد المفتي

طبيب وناشط سياسي مستقل، ومؤلف في التاريخ الاجتماعي الليبي.

اترك تعليقاً