مفاهيم سيئة السمعة.. (2) المجتمع المُحافِظ

مفاهيم سيئة السمعة.. (2) المجتمع المُحافِظ

إنّ مقتضى المُحَافَظة على شيء ما يتطلّب بالضرورة توافر خمسة شروط، أولها وجود مالك أو حائز هو “المُحافِظ”، وثانيها وجود “شيء” ما مملوك له أو بحوزته، وأنْ يكون هذا الشيء المطلوب المُحافظة عليه موجودًا من زمن سابق على التملُّك، وهذا يعني انتقال ملكية هذا الشيء إليه من الماضي، إذْ لا يُتصور عقلاً أن يُحافظ أحدهم على شيء لم يوجد بعد بحوزته، أو كان ليوجد لكن بالمستقبل، ووجود “خطر” يتهدّد هذا الشيء بالزوال من المكان والزمان، وإلّا لما كان للمسألة كلها من مبرر، وأخيرًا وجود “سلطة مادية” تخوّل المُحافِظ المُحَافظة على الشيء والحيلولة دون زواله.

فمثلاً المباني العامة والآثار والثروات الطبيعية.. إلخ، هي أشياءٌ مادية ترثها مؤسسة الدولة بشكل مستديم ومتواصل، أغلبها أشياء وجِدت حتى قبل وجود الدولة نفسها، كالثروات الطبيعيّة والآثار والكنوز الفنية، ولكونها أشياء مهمةّ وذات فائدة لوجود الدولة ذاته، فإنّ الدولة تمارس عليها واجبات الحفظ والترميم والحكامة حتى لا تندثر، والظهور عليها دائمًا وطوال الوقت بمظهر المالك لها والمُستأثر بها، وهي تفعل هذا بموجب سلطة مادية، أيًا كان مظهرها، قانوني أو عقدي أو نفعي، وذلك بفرض جزاءات وتدابير موضوعية متفاوتة الشدة على أي منتهكٍ لها، وذلك للحيلولة دون زوالها.

وفي إطار تناولي لمفهوم المجتمع المُحافِظ، بتطبيق الشروط الخمسة أعلاه على المُجتمعات العربية ومنها المجتمع الليبي، فإنني سأتجاوز الدولة بحديثي إلى الحديث عن المجتمع، لأنّ المجتمع في مجموعه لا يحافظ على الماديات؛ بل على المعنويات، والمعنويات هي تلك الأشياء غير القابلة للتجسيم، كالأفكار، والعادات والتقاليد، والدين، والفضائل والقيم، من غير التي يحميها القانون بالعقاب.

نحن هنا أمام مالك يستأثر بما يملكه هو المجتمع، وهو مجموع الأفراد الممتدين، من جيلٍ إلى جيل، في الزمان والمكان ضمن جغرافيا محصورة، وأمام شيء “معنوي” مُتَمَلَكْ هو منظومة العادات والتقاليد والفضائل والدين.. إلخ.

وهذا المُتَمَلَكْ “ماضوي” متوارث، أي قديم وينتمي لماضٍ بعيد جدًّا عن الوقت الحاضر، وهو، أي المجتمع، يواجِه بالوقت الحاضر مقاومةً، ورغبةً ملحةً في التغيير، من جيل الشباب والنخب المثقّفة من الرجال والنساء، تُمليها سيرورة الحياة وتطوُّر الأجيال وغزو التكنولوجيا، الذي جاء لتلك المجتمعات بأساليب للعيش والتعامل، وبنمط من التفكير وبتطلُّعات لم تعهدها هذه المجتمعات من قبل، كمروق النساء على مؤسسة الحجاب مثلاً، أو تصدرهن للمشهد العام ومزاحمة الرجال على السياسة، أو كتابات جريئة لبعض الشباب في الدين والجنس، أو مطالب نسائية بالمساواة مع الرجل على أساس المواطنة، أو المطالبة بإعادة قراءة الدين وأحكامه من البعض الآخر.. إلخ. وهو، أي المجتمع، يُجابِه ذلك بـ”سلطة معنوية”، هي الرقابة المجتمعيّة، والازدراء، والعزل الاجتماعي أو التلويح به، والتشنيع على المختلِف، والتشبث بثقافة الحرام والعيب وغير المسموح والمرفوض بوجه كل مارق. وقد تسلك السلطة المعنوية أحيانًا سلوكًا ماديًا يستطيل إلى جسد المارق عليها، كالتكفير وما يترتب عليه من هدر للدم أو المُمتلكات، والتخوين كنزع الوطنية أو الأخلاق عنه، والعنف الجسدي واللفظي ضده، واستحلال التحرُّش الجنسي وتسويغه، كما يحدث بحق النساء اللاتي يتمرّدن على مؤسّسة الحجاب، أو يخترقن فضاءات جرى احتكارها من الرجال، كمداومة التظاهر والاعتصام بالميادين العامة، أو ارتياد نوادي الرياضة أو التريُّض بالطرقات العامة.

وأنا حين أتحدث عن مفهوم المُحَافَظة في مجتمعاتنا، إنما أعني ما تقصده هي عن نفسها، بأنها مجتمعات تتمسّك بأهداب الدين والفضيلة، تدرأ عن نفسها المفاسد الأخلاقية، وترفض المُنكرات وتُدينها، ودائمًا ما تكون المرأة بالذات هي المقصودة بهذه المُحَافَظة، وذلك من خلال تحديد الأدوار بصرامة بينها وبين الرجل على أساس الوظيفة البيولوجيّة، فتُقصِر تربية النشأ والاعتناء بالبيت والأسرة عليها، وتُسنِد الوظائف المأجورة له هو، وتُسند له، تبعًا لذلك، تبعات اتخاذ القرار بالبيت وخارجه، فيكون هو قيّمًا ومراقِبًا وموجِهًا وفاعلاً، وتكون هي متلقيّةً ومراقَبةً ومنفعلةً ومكرَّسةً للبيت والأطفال والمهن المُتعلّقة بهما.

غير أنّ واقع الحال الذي تُثبته التقارير الدولية، وشهادات المتخصّصين وأرقام الضحايا، ضحايا تلك المجتمعات، من الأطفال والنساء تُثبت لنا أننا لسنا إلا أمام أكذوبة هشة وغير متماسكة، من ادّعاء الفضيلة والتديُّن، وأن المُحافَظة المزعومة، لا تعدو أن تكون هي المُحَافَظة على التخلُّف وإجادة التصنُّع وتكلُّف الأخلاق، لا غير.

إنّ واقع المجتمع المصري على سبيل المثال، كونه مجتمعًا محافظًا في عمومه، تلتزم فيه معظم النساء بالحجاب والاحتشام في استعمال الفضاء العام، ويتغشاه الطابع الريفي المُنضبط، لم يحُل دون أن تكون مصر، هي البلد الأكثر خطورةً على المرأة، عنها في أي مكان آخر (عربي)، وهذا بموجب تقارير لخبراء في شؤون الجندر بوكالة رويترز، انتهى إلى خلاصات مرعبة عن وضع المرأة هناك؛ حيث رافق التقرير صور تحرُّش حتى بنساء منتقبات أو محجّبات، كن يستعملن الطريق أسوة بالرجال، وأنه زاد من تحرُّشه بالمرأة واعتدائه عليها، حين رآها تسهم في الاعتصامات والثورة ضد نظام مبارك، أو ضد حكم الرئيس المخلوع محمد مرسي، وللتثبُّت من المصدر يمكن الذهاب إلى الرابط التالي http://www.youtube.com/watch?v=EljdrOBxM8c.

وواقع المجتمعات العربية والإسلامية بالذات، الشديدة المحافظة على القيم والتديُّن، لم يحُل دون أن تتدحرج تلك المجتمعات بالذات إلى الفساد المالي والإداري، والتربُّح غير المشروع والرشوة على نحو فاحش، بل جاءت دول لا تتردد في التمسُّك بالشريعة الإسلامية أسلوبًا للحكم والتشريع كالسعودية، تجوب فيها الشرطة الدينيّة الشوارع، لتصيّد أي مخالف للدين أو الآداب من الجنسين، تُحصي على الناس أنفاسهم وخطواتهم، تنتشر فيها المساجد بالآلاف، تُسمع فيها الخطب الدينية كل يوم تقريبًا، تغص بالدعاة والوعاظ، جاء بلد، كهذا بالذات، في مرتبة محرجة جدًّا في ذيوع الفساد المالي، على كل مستوياته الإدارية والخدمية، بالنسبة لدول أخرى لا ترفع شعارات الفضيلة والخصوصيّة الدينية، مثل السويد والدنمارك ونيوزيلندا، وللتثبُّت من المصدر الرجاء الذهاب إلى الرابط التالي الخاص بمنظمة الشفافية الدولية http://www.transparency.org/، وكتابة اسم أي بلد عربي مسلم ومنها السعودية بالذات، وأي بلد غربي آخر للمقارنة، مع ذكر السنة المطلوب معرفة سلوك تلك الدول المالي فيها.

أما بلد كاليمن، معروف بقبليته وتشدُّده، فتقتصد فيه المرأة من استعمال الفضاء العام، وتتضاءل حصتها إلى الحدود الدنيا في الحياة السياسيّة، من المتعذر جدًّا، إنْ لم يكن من المستحيل، أن تُرى سافرة في الطريق أو متحررة المظهر، هي البلد الأشرس على الطفلات بالذات؛ حيث تموت الكثير منهن سنويًا بسبب الزواج المبكر، وللتثبُّت من المصدر يمكن الذهاب إلى الرابط التالي لمطالعة تقرير منظمة “هيومن رايتس ووتش” بالإنجليزيةhttp://www.hrw.org/news/2013/09/10/yemen-end-child-marriage. كما يمكن الذهاب إلى الرابط التالي أيضًا لمتابعة لقاء متلفز مع شخصيات يمنية مسؤولة، للحديث عن حجم العنف ضد المرأة اليمنيّة http://www.youtube.com/watch?v=PrOchSr6K5I؛ حيث تُقتل النساء لأسباب تافهة كاستعمال الهواتف المحمولة، أو لقاء الخطيب بعيدًا عن مؤسسة الأسرة، وهي بلد يرفل في التخلُّف والجريمة والفساد والتطرُّف الديني.

وفي ليبيا، البلد الذي يُفاخر دائمًا بأنه بلد مُحافظ، بلد المليون حامل لكتاب الله، البلد المسلم بنسبة 100%، والذي يتغنّى بانسجام مكوناته القبلية والإثنية بسبب المصاهرة والجوار التاريخي، فإنّ ما أفرزته انتفاضة 17 فبراير على حكم القذافي، جاء بالكثير جدًّا مما يكذّب هذا الادعاء ويفضح زيفه. فقد كشفت الكثير من الوقائع التي ضبطتها منظّمات حقوقيّة داخليّة ودوليّة، عن تجاوزات فظيعة وغير مسبوقة في مجال حقوق الإنسان والاعتداء على النساء، وفي انهيار منظومة القيم والأخلاق لدى الليبيين، وفي التحرُّش الجنسي ضد المرأة، حتى إن مريضة شابة ترقد في غيبوبة بمركز طرابلس الطبي لم تسلم من التحرُّش الجنسي بها من أحد أعضاء الأمن بالمستشفى، هذا إنْ لم يصل الأمر لحد الاغتصاب أو الشروع فيه.

وفي العراق، البلد الذي نُعده جميعنا مهدًا لمعظم الحضارات بالمنطقة والعالم عبر التاريخ، والمعروف بتنوعاته الفكرية والدينية والثقافيّة واللسانيّة والإثنية، والذي يُفاخر أهله بأنه المتفضل حتى على حضارة أثينا بالفكر والفلسفة، قامت فيه دولة العباسيين بكل ما يحمله عصرها الذهبي من منجزات، فإنه لم يفلح في خلق حالة تعدد، تقبل بوجود تسامح بين الشيعة والسنة، الأكراد والعرب، المسيحيين والمسلمين، إذ لم ينتج العراق الآن غير امتهان النساء، والاحتقان الطائفي، والاقتتال الأهلي، والإرهاب، والفساد غير المسبوق، وبيع الذمم، والدموية في أبشع صورها.

أما حكاية الطفلة ملالة يوسف زاي التي تعرّضت لإطلاق نار متعمّد على رأسها في باكستان، بسبب تحريضها للفتيات على التعلُّم والذهاب للمدرسة، فهي أبلغ ما يمكن أن تُدلل عليه هذه المجتمعات التي ترفل في الادعاء والزيف ووهم المُحَافَظة المزعوم.

“المجتمع المُحَافِظ” شعار رث وقديم، لا يُسمح بإعادة النظر فيه أو مناقشته، لأنه صار مقدّسًا، صار دينًا آخر إلى جانب الإسلام وإلى جانب المسيحية

بالنهاية، أريد أنْ أؤكد أن شعار المجتمع المُحَافِظ الذي ترفعه مجتمعاتنا، هو شعار ماضوي “ذكوري” بامتياز، سنّه المجتمع من طرف واحد فقط، هو الرجال، وليس كل الرجال، إنهم فقط رجال العشائر ورجال الدين المتنفذون من وعاظ السلاطين، ورجال السلطة من الديكتاتوريين والطغاة، شعار قديم عمره آلاف السنين، لم تُسهم سائر طبقات الشعب في إنتاجه، ومن باب أولى لم تُسهم فيه المرأة بأي نصيب، على الرغم من أنّه شعار يكاد يقتصر عليها في مجمله، وهو شعار رث وقديم، لم يُعَد النظر فيه ولا يُسمح حتى بإعادة النظر فيه أو مناقشته، لأنه صار مقدّسًا، صار دينًا آخر إلى جانب الإسلام وإلى جانب المسيحية.

وأريد أنْ أؤكد أيضًا أنّ مجتمعاتنا بالذات قد استجابت لمنظومة الفساد والتفسُّخ الأخلاقي زمن الديكتاتورية التي حكمتها والتي تحكمها حاليًّا، وقد توغّلت كثيرًا في الرذيلة والتهتُّك والعنف، واستمرأتها حتى الثمالة، وبرّرت الأمر لنفسها بالكثير من التبريرات، لكنها ظلّت ممسكةً بتلابيب المرأة وحدها، تحاسبها على كل حركة وحتى على كل سكنة، تُمارس ضدها عنفًا لفظيًا وجسديًا وجنسيًا ونفسيًا عند أول بادرة شك بمسلكها، وقد تقتلها، تلك المجتمعات، وتشرب من دمها بسبب رفضها طاعة زوجها المستبد، أو تمرُّدها على مؤسسة الحجاب، أو اختيارها زوجًا من خارج قبيلتها أو قوميتها.. إلخ.

وأخيرًا، فإن هذه المجتمعات بإصرارها على مزاعم “الخصوصية والمُحَافَظة”، تُعلن أنها مجتمعات تأبى التحديث؛ لأنها تخاف الانفتاح على أنماط جديدة للعلاقات بين الرجل والمرأة تتجاوز تحديد الأدوار إلى تقاسم الأدوار، وتتخطّى التراتبية بين الجنسين إلى المساواة بين الجنسين، وتخاف التفكير في إحلال قيم أخلاقيّة جديدة متوافق عليها، قيم تتجاوز مفاهيم شرف المرأة وبكارتها، وصيانة الجسد الأنثوي لصالح مفاهيم إنسانية للجنسين، تتعلّق بتعلية قيم الصدق والأمانة وتقدير العمل والكرامة الإنسانية وإرساء ثقافة المواطنة، وهي مجتمعات أُحرّض شخصيًا على الثورة عليها وعلى السخرية من مفاهيمها والهزء من شعاراتها الجوفاء، وإعلان المروق عليها وعلى أصحابها فورًا من النساء قبل الرجال.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

اترك تعليقاً