خارطة طلاق

خارطة طلاق

تقديم:

شرطٌ أساسي لفهم أية قضية، هو وضع كل الحقائق على الطاولة، وعدم رمي ما لا يناسب في سلة القمامة، أو إخفائها في الدرج، لأنه إن غُيّبت جوانبٌ ما بالقضية، فسيكون الحكم بالضرورة غير عادل، طبعاً أتوقع أن ثلاثة من المعنيين مثلاً، قد يرون نفس الحقائق لكنهم يصلون لاستنتاجات مختلفة، لكن لاحظوا أن إمكانية التفاوض والتعديل تظل موجودة، لأن علم الجميع شاملٌ وموضوعي، أما المعرفة الناقصة أو الإنتقائية، فلن تمنح أبداً فرصاً لأي مفاهمات أو تفاوض، بل تنجح في خلق طرفٍ متعصبٍ بالضرورة، كما تخلّف دائماً وضعاً مضطرباً.

سبب هذه المقدمة، هو تنامي التحذيرات مما يقال إنه سيناريو مرعب، لتفكيك العالم العربي وتقسيمه لدويلات قومية وطائفية، لإضعاف المنطقة بأسرها، وسهولة السيطرة عليها، لنهب مُقدراتها وإضعافها لصالح دولة إسرائيل، وضرورة التمسك بوحدة تلك الدول، في وجه الإعصار القادم من الغرب، ولعل الكثيرين لاحظوا ولابد، تنامياً في صعود النزعات الإنفصالية، بسوريا واليمن والعراق وليبيا، وتململ بعض القوميات والطوائف والأقاليم، من الفوضى المتفشية منذ خمس سنوات، والمجاهرة برغبتها في فك ارتباطها بالدول التي تعيش فيها، وبكل مرة كنت أسمع فيها كلام المحللين السياسيين والفضائيات العربية، عن وفرة مقومات الوحدة التي تتميز بها المنطقة دوناً عن العالم، كنت أستعيد مع الكثير من المرارة شعاراً شوفينياً، لطالما ردده العقيد معمر القذافي، ومن خلفه القوميين على اختلاف تعصبهم، وهو “شعبٌ واحد لا شعبين، من مراكش للبحرين”.! فهل كان القذافي مُحقاً في شعاره هذا يا ترى؟ وهل ما تضخه الفضائيات والمحللين السياسسين هو حقيقي؟

حسناً، قبل أن تجيبوا بنعم أو حتى بلا، لا تنسوا أنني ورطتكم بمقدمة، تتطلب وضع جميع الحقائق على الطاولة، وتعلم المكاشفة لتشخيص المشكلة.

الموضوع:

إن التاريخ والحاضر يخبرنا ولا شك، أن وحدة الشعوب المذكورة  في شعار القوميين أعلاه، هي كذبة كبيرة، صدقها الحمقى والإنتهازيون فقط، فالمنطقة الممتدة من مراكش للبحرين، قد شهدت على مدى تاريخها الطويل، حروباً دموية وأهلية وتوسعية طاحنة، من وقت نزول الرسالة المحـمدية حتى انتهاء الإستعمار الغربي، بدأً من معارك بدر وأُحد والخندق وغزوات بني قينقاع وبني النظير وبني قريظة وخيبر وبني المُصطلق وتبوك، ومعارك الردة، وعصر الفتنة الكبرى وموقعة صفين والجمل، واليمامة، ومذابح الحرة وكربلاء، وإن أكبر الحملات العسكرية بالتاريخ، قد سيّرها الصحابة وبنو أمية وبنو العباس والدويلات التي انشقت عنها، لنشر الإسلام بكل مكان، إن لم يقبله أهالي الأمصار طواعيةً فالبسيف، وقد وصلت حملات المسلمين العسكرية، لأوربا وشطر من آسيا وأفريقيا، وحتى حين وقعت المنطقة تحت الإحتلال التركي (باستثناء المغرب) لم تتوقف الصراعات الأهلية في ليبيا، وشبه الجزيرة العربية، وشمال أفريقيا، وبعد انتهاء الإستعمار الغربي، لم تفتر الحروب أبداً، فالصراع الجزائري المغربي على الصحراء الكبرى مازال مستعراً، وحرب ليبيا مع تشاد وأوغندا، والعراق مع جيرانه (إيران والكويت)، والسعودية واليمن ومصر، وتوتر العلاقات المصرية السودانية، والليبية التونسية والليبية المصرية، والإمارتية الإيرانية، وما هي إلا سنة بعد “الربيع العربي” حتى انفلتت النزاعات قديمها وحديثها بسهولة في ليبيا، بين ورشفانة والزاوية، والزنتان والمشاشية والقواليش، والتبو والطوارق، والتبو والزويّة، وغريان والأصابعة، ومصراتة وورفلة، ومصراتة وتاورغا، ومصراتة وبنغازي، ومصراتة وورشفانة، والعرب وبعض قبائل الأمازيغ، وفي العراق وسوريا يشرب السنة والشيعة (والعلويين) من دم بعضهم البعض يومياً، واعتداء داعش على مكون قومي آخر هم الأزيديون، وتوترت العلاقات بين قطر والسعودية والإمارات، والبحرين وإيران، وتركيا وليبيا وتركيا ومصر، وتدخلت الدول في شؤون بعضها، وارتكتب أفعالاً تخرق مبدأ السيادة والعيش المشترك، وساهمت في زيادة الدماء والإحتقان، فهل يمكن بعد هذا لشخص ما، أن يكلمنا عن انسجام ووحدة الشعوب من مراكش للبحرين، بل هل يجوز الكلام بعد اليوم عن وحدة وإنسجام بين مكونات أي شعب من شعوب تلك المنطقة؟ وهل النسيج الليبي متماسكٌ وصلب، هل العلاقات الإجتماعية من القوة بمكان بحيث تصمد أمام الأزمات؟ أم أنها في الحقيقة هشة (ملصّقة بالوشق) وسريعة التداعي؟

الإنتماء:

إن شعوب المنطقة (أكراد آشوريون أزيديون عرب أمازيع تبو شيعة سنة يهود دوروز ….الخ)، لابد أن لكلٍ منها خصوصيته وثقافته، وشخصياً أتفهم ردود فعل الكثير منها، بعد تاريخ طويل من محاولات الدمج القومي والديني واللغوي لهم، في مجتمعات حكمها حزب أو قبيلة أو طائفة لا تشاركهم الشعور بالهوية، وقد كانت كلها محاولاتٌ محكومةٌ بالفشل، فمن له الحق في أن يمنع أي فرد، من منح اسم بطله القومي لأولاده، أو تعلم لغة أمه ومحبة أزيائها الشعبية، أو الإحتفال بأعياده الخاصة بحرية، أو ممارسة شعائره الدينية كما يرتضيها؟ لا يمكن أن توجد شعارات أو حتى جيوش، بوسعها أن تمحو الذاكرة الشعبية لأمة عمرها آلاف السنين، كالأمازيغ والتبو والطوارق والأكراد، ولا يمكن لشعارات أو جيوش أن تحول بين الناس وبين حاجتها للإنتماء.

إن الإنتماء هو مسألة معقدة جداً وخاصة جداً، إنه حالة نفسية يفرضها على الإنسان نسبة امتصاصه العالية، للمعلومات والصور في السنين الأولى من حياته، وتعبئة خزنته الفكرية بها، هذه الخزنة سيظل يحملها معه أينما ذهب وحيثما ارتحل، ومن ضمنها تقاليد الأعراس، وطقوس الأعياد، ونكهة الطعام، والأمثال الشعبية، والأغاني التي تغنيها الأمهات وهن يجهزن أطفالهن للحياة، هذا الإنتماء لا تستطيع لاحقاً أن تستبدله إدارة هجرة أجنبية ببلد ما، مهما أعطت صاحبه من حريات وحقوق دستورية، ولا يستطيع مستعمر أن ينال منه، ولو اعتنق الشخص دين المستعمر وتكلم لغته، فلا يوجد شيء يمكن أن يقف أمام سطوة الجينات، وليس من المعقول أبداً أن نطالب الأمازيغ أو الأكراد، بالتخلي عن قومياتهم أمام محاولات القوميين والإسلاميين، الساعية لصهرهم وتذويبهم فيها منذ قرون، طالما أن مجتمعاتهم لم تتوفر على الديموقراطية والمواطنة منذ 1400 سنة، وطالما أنها منذ 1400 سنة لم تعرف غير الدين والقومية، حتى باتت هشة وتتفتقر دائماً لمفهوم المواطنة والهوية الجامعة.

النزعات الإنفصالية بليبيا:

ربما بدأ البعض يتساءل الآن، ماذا تقصدين بعد هذا الكلام الكثير؟ هل أنتِ مع انفصال برقة؟ وما رأيك بمطالب الأمازيغ أليست تمهيداً لمشروع قومي انفصالي؟  حسناً، وأنا أتوغل الآن في الأربعين، وبعد تأرجحي بين أكثر من فكر في بداية شبابي من يسار اليمين إلى يسار اليسار، وتجاربي المُرة مع إسلام لا يعرف إلا مفهوم الأمة فقط، ووفق ما أتاحته الحياة لامرأة مثلي، عاشت ببلد يفتقر لكل تقاليد العمل والتفكير السياسيين، لا أدع الصدفة أو العاطفة تحكم خياراتي الفكرية بعد الآن.  نعم، أنا أتفهم النزعات الإنفصالية، ولا أخذ منها موقفاً راديكالياً، إنها مبادئ حرية التفكير والتعبير وتقرير المصير التي أؤمن بها، لكن هل يشكّل المتطلعون للإنفصال في ليبيا، رقماً يجعلهم يدّولون قضيتهم ويطلبون تقرير مصيرهم بمنأى عن البقية؟ هل هناك إرادة داخلية قوية وسط الأمازيغ تجعل إنفصالهم وشيكاً أو حادثاً لا محالة؟ وهل عانى أهل برقة من مشاكل هوياتيه، بسبب دمج قسري كالذي تعرض له البربر؟ أم أن الرغبة بالإنفصال لديهم اليوم، هي بسبب اعتبارات اقتصادية وأمنية، تخص مقدرات منطقتهم النفطية، والشكوى من التهميش الذي عانى منه إقليمهم على مدى عقود، وهل بعض أهل هذا الإقليم لم يشاركوا يوماً في سرقته لجيوبهم الخاصة، أو لحساب أجندات دينية تغذي التطرف بالمال والرجال من برقة نفسها؟ ألم ينل بعض أهل برقة من ثقافة وآثار برقة، واستعملوا جبالها ووديانها لإستقبال الإرهابيين الأجانب كغيرهم من بقية الأقاليم؟

الحقيقة إن تفهمي العميق للنزعات الانفصالية اليوم يقوم على مبدأين:

أولاً: أنا كوفاء لا تهمني خارطة رسمها سياسيين أجنبيين للمنطقة (سايكس وبيكو)، على فنجان قهوة ودون معرفة دقيقة بالمنطقة، والحزازات التاريخية بين قومياتها، أو حتى مجرد زيارتها، لكن يظل انتمائي متحققاً لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ولثقافة أشعرية مُسالمة، وهذه المنطقة تواجه الكثير من التصدع اليوم، وقد تتفتت غداً إلى دويلاتٍ تقوم على أنقاض تلك الخارطة، والتي أطمح كأقصى حد أن تكون دويلاتٍ مدنيةٍ تحضتن المنتمين إليها بلا تمييز، طالما أننا ومنذ قرون طويلة لم نملك خياراً ما بشأن أوطاننا، بل في الحقيقة أننا نتقاتل الآن لنحافظ على حدودٍ لم نرسمها.

ثانياً: إن تفهمي للنزاعات الإنفصالية، لا يعني قبولي ببناء الأسوار العالية بوجه “الآخرين”، وأنا هنا لا أتكلم عن السياسة والحدود وجوازات السفر، فلكل شعب حق تقرير مصيره، بما فيها الأمازيغ وسكان برقة، إن وجدت عزيمة وإرادة واعية لديهم، ما أقصده هو بقاء شعور بالولاء، لمنطقة عاشت ظروفاً مشتركة، وتتشابه شعوبها في بعض الجوانب الثقافية والحضارية، وتواجه نفس التحديات المستقبلية تماماً، ما يهمني الآن هو ألا تتحول النزعات الإنفصالية، إلى ردود فعل أو إلى قوى مُدمرة أخرى، لأن ما يشغل بالي منذ تفجر الحرب في بلداننا، هو ضرورة بناء دول قابلة للحياة مبنية على الائتلاف الوطني، وعلى مبادئ المواطنة من دون إقصاء، لا على مبادئ قبلية وطائفية بحتة.

ولمن يفكر بالإنفصال من الأمازيغ أو سكان برقة أو غيرهم، أقول من حيث المبدأ إن العلاقة إذا توترت مع الشريك بالبيت، وظهر واضحاً أنه يتجاوز طوال الوقت على شريكه، ويضيّق عليه ويذله أو يبتزه، أو لا يعترف بمترتبات الشراكة معه، ويتصرف كأنه وحده سيد البيت، فلا شك أنه يحق للآخر تطليقه، ورميه خارج حياته والبدأ بدونه من جديد، لكن بكل حالة طلاق، يفكر العاقل بتبعات ذلك على أولاده، الذين سيحتفظ بحضانتهم وإدارة شؤونهم وإعالتهم، ويفكر في حالة صداقة مشروطة مع المُطَلّق.

نحن بليبيا ولا شك نعايش حالة طلاق غير موثق، فلدينا برلمانين وحكومتين وجبهتين وجيشين وإيديولوجتين متشاحنتين، ولدينا أولاد مشردون ممزقون تنخرهم كل أشكال الفساد والتطرف من الحد للحد، والرجعة عن هذه الفسيفساء، لصالح علاقة موحدة من جديد، يتطلب مالاً ورجالاً وكفاءات وطنية وتكنوقراطية، وعزيمة وتجاوز للخلافات، وتقديم تنازلات مؤلمة لأجل الهوية الجامعة، والطلاق البات برأيي يتطلب نفس الشيء، إن تنجيزه يحتاج أيضاً لمال ورجال وكفاءات وطنية وتكنوقراطية، وعزيمة ورسم حدود خارطة طلاق جديدة، للتعافي من جرح الإستغناء عن الشريك المزعج، الذي عاش معنا لكنه كان يؤذينا طوال الوقت، وتدبير شأن أولادنا الذين سنستقل بحضانتهم.

الخلاصة:

نحن دائماً نمجد الزواج، ونكره الطلاق، مع أن الطلاق قد يكون حلاً لإنهاء حالة من المرارة والإستنزاف النفسي والعصبي والمالي، والوحدة دائماً هي ما يشغلنا رغم أنف التاريخ والحاضر، اللذان يقولان إننا مختلفين من مراكش للبحرين، لإن الوحدة في الحقيقة هي شعار رفعه من كان بيده السلطة فقط، وقد كانت السلطة معظم الوقت منذ 1400 سنة، بيد الإسلاميين والقوميين، وقد شنّ هؤلاء حرباً على الأقليات، ولاحقوها بالقتل والأسلمة والتعريب أو التسنين والتشييع، بل حتى الأغلبية إن لم تشاركهم الدين أو القومية، فإنهم يسحقهونها بلا هوادة، وعلى مدى التاريخ شهدنا ما فعله الأتراك بالأرمن، والبعثيين العراقيين بالأكراد، وطالما أن الشعوب الممتدة من مراكش للبحرين، لا تعرف شيئاً عن الديموقراطية ولا المواطنة، فإنه يحق ـ من حيث المبدأ ـ للشريك المتضرر، أن يفكر في خارطة طلاق مع شريكه المزعج، بدل أن يسلخ 1400 عام أخرى في الفوضى والتيه، فالتفرق ليس دائماً ضعف، بل ربما كان سلاماً ورخاءً، ولا داعي لتخوين الآخرين إن فكروا في الخلاص، فمن يدافع عن خريطة اليوم، إنما في الحقيقة يدافع عن مشروع تنظيم للمنطقة فُرض عليها من الخارج، ولو استمر بنا الحال هكذا فقد يبكي أحفادنا بعد 50 سنة أخرى، على خريطة رسمها رجلان أشقران للمرة الثانية أو الثالثة.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

اترك تعليقاً