هل يصنع الليبيون طاغية جديدا..؟!

هل يصنع الليبيون طاغية جديدا..؟!

د. عبيد الرقيق

باحث ومحلل سياسي ليبي

لقد انتفض الليبيون في 17 فبراير ذكرى قتل النظام الحاكم لاحدى عشرة مواطنا ليبيا تظاهروا في بنغازي عام 2006 ضد تصريحات وزير ايطالي اساء فيها الى نبي الاسلام “محمد” اللهم صلي وسلم عليه. انتفض الليبيون في ثورة شعبية سلمية عارمة شملت اغلب المدن والمناطق.. هذه المرة يطالبون باصلاحات جوهرية على المستوى السياسي والاقتصادي والتنظيمي, لكن نظام القذافي الذي احكم سيطرته على ليبيا الشعب والوطن منذ اكثر من اربعة عقود, منفردا بالسلطة والقرار لم يروقه ابدا ان تخرج الجماهير بعفوية معبرة عن رأيها , وهو الذي تعود صناعة المسيرات وتكوينها والدعوة لها وحتى المشاركة فيها وقيادتها حسب ما يهوى!!

في نظام تعود صناعة الحدث واحتكاره في ليبيا لم يكن ممكنا قبوله باي حدث وان كان بسيطا من اخرين ولو كانوا الشعب الليبي كله!. تلك هي رؤية الطغاة المستبدين الذين يعيشون في وهم تفردهم منكرين للواقع الذي لا يرونه الا بحجم مؤامرة اوخيانة او حتى جنون!. قدر الليبيين ان يحكمهم فرد مهووس بجنون العظمة لاربعة عقود لا يحسبهم الا رعاع بدرجة حقراء او عبيد, فهم العاجزون عن كل شىء! حتى عن التفكير في مصيرهم او متطلبات حياتهم. انهم كالقصر الذين لا يستطيعون تدبير امورهم الا به فهو ولي امرهم وولي نعمتهم وكل شئونهم ماظهر منها ومابطن. وهو دون غيره العارف بكل امور الدنيا الممسك بتلابيب العرش. هو القائد والملهم والمعلم هو المجد والتاريخ  وكل شىء!!.. هو وبعجب الاله المعظم فوق الارض!!.

ليس هناك من يشتهي سفك دماء الابرياء العزل الا من اختلت لديه موازين الحكمة والتعقل وخاصة عندما يكون في موقع الحاكم..قد يستغرب الكثير الاسلوب الذي عالج به النظام الليبي انتفاضة الشعب لكن المتأمل في تاريخ وثقافة الطغاة لا يمكنه الاستغراب قياسا على ثقافة الاقصاء والتفرد التي يتلبسها الطغاة المستبدين وما فعله نيرون او هتلر ليس بعيدا عن الاذهان. ان البيئة ولا شك هي التي تشكل ثقافة الحكام وخاصة في مرحلة مابعد الوصول الى سدة الحكم مدعومة بارث التكوين الذاتي للشخصية الحاكمة في مراحل نشأتها الاولى على المستوى الاسري ولا نغفل ايضا الدور المهم الذي يلعبه الوسط المحيط من المتملقين الانتهازيين المحيطين بالحاكم.. فكلما كان الحاكم قريبا من افراد شعبه الطامعين المتملقين كلما كان اكثر تطرفا وانفرادا بالحكم وبالتالي ظالما لشعبه محتقرا له ومستخفا به والعكس صحيح.

انها مأساة الاطالة في سدة الحكم اكثر من المعقول, وهو مايدعو الى وضع حد لذلك من قبل العالم من خلال منظمته المتحدة..ان استمرار الحاكم في الحكم لاكثر من ثمانية اوعشرة سنوات تجعله يحس بأنه الوصي والعارف والحكيم وصمام الامن والامان الى غير ذلك من معطيات ثقافة نرجسية تقدس الانا وتقصي وبكل وقاحة الاخرين وان كانوا بحجم الشعب كله. لهذا يرى الحاكم المستبد المتفرد نفسه بانه الشعب وان كل من يعارضه يعارض الشعب ولذلك يرى الحاكم المستبد في افكاره واوهامه بانها الملاذ والحل النهائي غير ابه بما يمكن ان يحدثه ذلك الوهم من ويلات وثبور على الشعب المغلوب على امره. من هذا المنطلق حاول حاكم ليبيا معالجة انتفاضة الشعب مستخدما الحديد والنار لقمع ابناء الشعب في غير هوادة واصفا الثائرين بالجرذان!! ولان تفكيره المغلق غير قادر على استيعاب الواقع يصفهم بالمهلوسين والمجانين الى غير ذلك من الصفات والاوصاف المضحكة المبكية في ان.

نستطيع الجزم بأن الشعوب ذاتها قد تصنع جلاديها وطغاتها حينما تركن الى الخنوع وتترك الفرصة لضعاف النفوس من انتهازيين وطامعين وجبناء ليتسيدوا الموقف ويحيطوا بالحاكم يتدافعون ليكونوا بطانته وسدنة عرشه!! قد يستغرب البعض ذلك الا انني اجزم بأن الشعوب هي من يصنع الطغاة في لحظة تراخي ووهن ولامبالاة..لكن الثابت ايضا ان الشعوب ذاتها هي من يحدد نهاية اولئك الطغاة وطريقة وشكل النهاية عندما تقرر الشعوب فجأة التخلى عن حالة الوهن واليأس وتنتفض في غير موعد متحدية ذلك الواقع مهما بلغ الثمن. ذلك ما فعله الشعب في تونس ثم مصر ثم ليبيا وما يفعله الشعب الان في سوريا واليمن.

ان تفجير الثورات بمنظور الشعوب سهل وممتنع لكن الصعوبة تكمن في الحفاظ على زخم الثورة وتأمين تحقيق اهدافها فالثورة على الطغاة حالة عارضة ومؤقتة تنتهي بنهاية الطغاة وازالتهم من المشهد لكن مرحلة الانتقال من حالة الثورة الى الدولة هي الاصعب والاخطر. فاما ان يحرص الثوار على ان تسلم الامانة الى اهلها من الموثوق فيهم وطنيا واجتماعيا وسياسيا واما ان يسرق الانتهازيون النصر ويدخلون البلاد في حالة اخرى من الفوضى التي تفضي الى اعادة صناعة طاغية جديد وديكتاتور اخر!! لا استغراب فتلك دروس من التاريخ لطالما تحولت فيها الثورات الشعبية الى فوضى وعدم استقرار ومن ثم لا امان الامر الذي يجعل الشعب يركن الى مبدأ الغاية تبرر الوسيلة حين تكون الغاية الامان والاستقرار وقد لا يجد من يوفره غير شخص او مجموعة قوية يسلم لها الامر طواعية ويترك لها حرية التصرف ولو بديكتاتورية وحدث ذلك للثورة الفرنسية حينما تولى نابليون الحكم باجندة امبراطورية فردية!!

انني حينما استعرض المشهد الليبي الان وبرغم انتهاء حكم القذافي, يعتريني شىء من الخوف على مستقبل وطني اذا لم يتوحد الجميع وتتكاثف الجهود من اجل الاسراع في مصالحة وطنية شاملة يتمخض عنها تأسيس مؤتمر وطني ليبي يضم اطياف الشعب كافة ويشرع في اعداد مسودة الدستور الذي ستحكم به البلد.. ان التقاعس عن هذا الواجب اعتبره بمثابة الخيانة لدماء الشهداء ولهذا يتحتم علينا الاسراع في وضع الدستور لتحديد نظام الحكم الجديد وعرض ذلك سريعا على الشعب في استفتاء عام.. ان ذلك في نظري الضمانة الوحيدة لعدم العودة الى الوراء ولتأمين تحقيق اهداف الثورة والا فان التقاعس عن ذلك قد يدخلنا في مرحلة من الفوضى قد تفضي الى ما لا تحمد عقباه لنجد انفسنا امام حالة من الفوضى والفراغ السياسي تشوبها الكثير من المخاطر وتهدد بالتالي امن واستقرار الوطن وتفكك اللحمة الوطنية مما يوفر تربة خصبة لنشوء حالات من الطغيان الجديد قد نلجأ لقبولها مرغمين!! فهل يحرص الليبيون على ثورتهم بروح وطنية مخلصة بعيدا عن الجهوية والقبلية ويؤسسون نظاما ديمقراطيا عصريا ..ام انهم سيفقدون السيطرة ويغوصون في فوضى تجرهم كرها الى صناعة طاغية جديد؟!

اللهم احفظ ليبيا وشعبها الأبي

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. عبيد الرقيق

باحث ومحلل سياسي ليبي

اترك تعليقاً