قرحة على الخد

قرحة على الخد

سألهم وهم ينقلونه إلى الزنزانة المجاورة له لماذا هو مسجون، ولماذا يكتمون عنه سبب سجنه، وطلب محامي للدفاع عنه، وطلب ملابس غير هذه العسكرية التي لم يخلعها منذ شهر، وطلب لو يعمل حماماً بالماء والصابون، وفرشة ومعجون أسنان، وطلب كُتب ومصحف قرآن، لكنهم لم يجيبوا عليه. كانوا فقط يناولونه غذاءه وعشاءه من كوة في باب الزنزانة ثم يعيدون إغلاقها عليه بقوة.

أخذوه من بين زملائه وأودعوه السجن يوم كان يجري بروفات في بنغازي على عرض عسكري للذكرى العاشرة لانقلاب 1969. جاءوا وطلبوه وساقوه من ساحة التدريب إلى سجن الشرطة العسكرية في بنغازي ، دون أن يعرف السبب، فجلس لوحده يُقلب طرفه في ارجاء الإنفرادي، وبعد شهر نقلوه للزنزانة المجاورة على يمينه، وبعد مضي أكثر من عام خرج وعرف وهو في الطريق إلى قريته سبب سجنه ، وعرف ايضاً سر رائحة بيتهم التي وجدها أمامه في الزنزانة المجاورة يوم نقلوه لها.

قبل مضي أول شهر عليه، وقبل أن يُنقل للزنزانة المجاورة له، كان يقترب من باب زنزانته وينصت لعله يعرف من الباب المجاور له على اليمين شيئاً، ولعله يقول له أو يسمع منه شيئاً كما تتحدث الزنازين مع بعضها البعض في أواخر الليل ، لكنه لم يسمعه مرة يتكلم. كان دون كل السجناء صامتاً طيلة وقته ولا يتكلم . وبعد شهر أخلوا جاره ونقلوه هو إلى مكانه . سمعهم يفتحون الباب عليه ويأمرونه بالخروج ، وسمعهم يحكمون عليه الأصفاد ، وسمع وقع اقدامه خلفهم ، فوقف “عثمان” لعله يعرف ويتعرف على وجه هذا السجين ، لكنهم أخذوه ومضوا به إلى الجهة الثانية في الممر ، فنادى عثمان بأعلى صوته: أنت أيها السجين إن حدث وقابلت أحداً من فزان أخبره أن السجين عثمان بن عثمان قد أودعوه السجن دون سبب ، وأن عثمان هذا من قرية تُسمى “سمنو” ملقاة في أقصى الجنوب، وأنه في شوق كبير لأبيه وأمه وأخته، لكن السجَّان جاء مسرعاً وسد الكوة في وجهه قبل أن يُكمل وصيته، وقبل حتى أن يسمع رداً واضحاً من ذلك الذي سمعه يحاول أن يرد مغمغماً ساعة اغلق الحرس له فمه . فمضى ذلك السجين مُكمم الفم عبر الممر ، في حين نقلوه هو في المساء إلى مكانه في الزنزانة المجاورة.

لم يعرف عثمان لماذا نقلو جاره ولا أين مشوا به ، لكنهم في العادة كانوا يُرحلون السجناء إلى سجن الحصان الأسود في طرابلس ، ولم يعرف لماذا أخذوه هو من زنزانته واستبدلوها بهذه ، لكنه عزا ذلك لحاجتهم للأولى لأنها تسع عدداً أكبر من المساجين . وأغلقوا عليه الباب بقوة كما كانوا يفعلون مع باب الأولى وشعر أن شيئاً لم يتغير سوى حجم الزنزانة . فبعد أن توقع إفراجاً وجد نفسه في زنزانة أضيق من سابقتها لكنه سرعان ما حس فيها شيئاً لم يكن في الأولى . كانت لا تسع اكثر من سجين واحد لكنها بدت في نفسه ارحب من الأولى التي تسع لأكثر من سجين . جلس في ركنها ، وظل لدقائق يبحث عن تفسير لهذا الإحساس الرحب ، وفشل في الوصول لشيء واضح ، فأغمض عينيه وسحب بهدوء شديد جداً نفساً حين خال له شيء من رائحة بيتهم في الزنزانة . عاود وسحب نفساً أطول ، وبهدوء أكثر ، وطفق يفككه بين شعيرات أنفه ليتأكد إن كانت هذه رائحة بيتهم أم رائحة مشابهة لها ، ثم وقف وهو مغمض العينين يكرر بهدوء تفكيك الرائحة . وكان في كل مرة يعيدها تعود رائحة بيتهم لتتخلل انفه وتمضي إلى داخله . وظل وهو يتحرك في الزنزانة مغمض العينين يكرر ويسحب اكبر قدر ممكن منها دون أن يعرف من اين اتت وكيف أتت ولا مَن جلبها ، ولا حتى كيف انبثقت في داخله قدرة التفكيك هذه التي طفقت تفرز وترتب روائح المكان كل رائحة على حده.؟!

بعد حوالي خمس دقائق إغماض وعمل وتفكيك وتركيز عالٍ ، بات موقن أن بعضاً من رائحة بيتهم الواقعة في الجنوب جاءت ودخلت زنزانة سجن الشرطة العسكرية في بنغازي . ولم يتعجب فقط لقدرة الرائحة على قطع هذه المسافة التي قد تصل إلى ألف ميل ، ولم يتعجب لقدرة الرائحة على تعدي الحراسات ودخولها عبر الباب أو حتى عبر كوة صغيرة في أعلى الزنزانة ، ولم يتعجب لقدرتها على تماسكها واحتفاظها بكينونتها بعد هذه المسافة ووسط هذه الرائحة للسجن ، لكنه تعجب أكثر لقدرته في التعرف عليها وفرزها وسط زحمة السجن والسجناء.

وبعد حوالي عشرة دقائق إغماض وعمل وتفكيك وتركيز عالٍ جداً ، تأكد منها ومن وجودها معه لكنه لم يتوصل إلى الطريقة التي وصلت بها ، ولا المكان الذي تسللت منه خفيَّة ، ولا مَن أرسلها له ، ولا حتى كيف عرف هذا المُرسل أنه موجود في هذه الزنزانة وليس في غيرها ، لكنه استأنس بها وطفق يتحدث معها ، وطفق السجناء المجاورون له يسمعونه يتحدث مع أبيه وأمه وأخته ، وطفق يشم رائحة بيتهم بهدوء ويقطع بها المسافة البعيدة التي قد تصل إلى الف ميل . ففي اقل من ثانية يجد نفسه يقف أمام باب البيت الواقع شمال القرية ويتقدم ويجلس في داخله مع أمه التي أدماها الحزن . وكان في كل مرة يتمنى لو يعيش أطول مدة هناك لكن صوت سجان أو سجين يقطع هذا الحبل ويعيده إلى زنزانته بلمح البصر ، وفي كل مرة يصل باب بيتهم كانت الرائحة تدعوه ليلج إلى الداخل لكنه يُفضل لو يقف قليلاً ويجيل طرفه في الشارع، وكان دائماً يُفضل لو يصل هناك في فترة ما بين صلاة المغرب والعشاء ، ساعة يكون والده وأعمامه وأولاد اعمامه يجلسون أمام بيتهم ولاشك أنهم مشغولون عليه، ويخممون وحتى يخمنون عن مكان وجوده وإن كان ما زال عثمان على قيد الحياة أم هو ميت.

اخذوه من ساحة التدريب في بنغازي في ثالث ايام عيد الفطر المبارك ، أي قبيل ذكرى الانقلاب بأيام معدودات ، ومضى عليه عيد الأضحى ولم يسأل عنه أحد ، ولو يعلمون مكان وجوده لما تأخروا كل هذه المدة ، وحين حاول أن يُرسل رسالة شفوية مع السجان لأبيه صده السجان وحذره من الكلام عن أي رسالة ، ففات الأضحى وعاشوراء والميلاد وأعياد أخرى صغيرة ، وشعر بدمعة كبيرة تتدحرج على خذه في صمت ، وهو الذي لم يسيء مرة لأحد ولم يُذب مرة في حق أحد . وضع كفه اسفل الدمعة لتقع عليها ويرفعها فوق إلى الله لكنها لم تقع على كفه ، بل جفت على خذه وتركت قرحة بقيَّ أثرها على الخد حتى عام 2011.

بعد ثلاثة أيام من نقله إلى الزنزانة المجاورة عثر على دليل ربما يُفسر وجود رائحة بيتهم في الزنزانة ، فسحب انفاساً أكبر منها ، وطفق يسحب اكثر وأكثر وهو يطالع الدليل على جدار الزنزانة.

لم يتأكد، لكن شكوكاً ساورته بأن شكل خط هذه العبارة على جدار الزنزانة يشبه خط أخيه ، وهذا الذي تحمله العبارة يحاكي ما يحمله أخيه . ولا أحداً أكد له. حتى السجان الذي معه علم بكل شيء رفض إخباره بأي شيء.

وقف عثمان على مشط قدميه مرات ليطال تلك الدائرة التي حُفرت عليها خاطرة تُشبه خواطره بيتهم ، وحُفر عليها صمتاً يُشبه صمت أبيه ، واقترب اكثر بأنفه منها ليملأ خشمه وصدره الذي انشراح ما إن عرف وجوداً سابقاً لبيتهم هنا . ولم يشعر بالحزن ، بل شعر وهو يمطط طوله لتلك العبارة المكتوبة بين قوسين، أن الحياة ساعة تكون قبيحة وقبيحة جداً تعيدك إلى مكانها مغلول اليدين حتى لو طِرت بعيداً عنها كما يطير الطير بعيداً عن القضبان.

وبعد أكثر من عام ، وهو ما زال في الطريق إلى قريتهم اخبروه عن كل شيء . رووا له القصة كاملة ، لكنه لم يشعر بكره كبير ككرهه للقبارصة الذين اعادوا اخيه من حيثُ آتاهم ، ولم يتأكد أن قبرص هذه جزيرة حقيرة وقريبة من اسرائيل كما تظهر على صفحة الجغرافيا إلا يوم عرف أن اخيه حط بطائرته فيها ، ولم يتأكد أنها جزيرة مليئة بالمخابرات الاسرائيلية كما يُشاع عنها إلا يوم سلمتْ أخيه مكبلاً كما يُكبل الفلسطينيون الذين دأبوا على اختطاف الطائرات ، ولم يتأكد أن القبارصة لا فضل لهم ولا فضل فيهم إلا يوم عرف أنهم رفضوا تزويد أخيه بالوقود ليواصل طيرانه إلى بغداد ، ولم يشعر أن أكثر مختطفي الطائرات في العالم ربما يكونوا على حق إلا يوم سمع بقضية اخيه.

أخبره وهو في الطريق لقريته بعد سجن دام أكثر من عام ، وسألهم لماذا سجنوه وهو الذي لم ير أخيه قبل اختطافه للطيارة لأكثر من عام ، وقالوا له إحمد ربك يا رجل أنه عام واحد فقط وليس أعوام . وكم تمنى يومها لو له حداء اخيه الذي اخفى فيه المسدس ، وله مسدس اخيه الذي أخفاه في الحداء ، ويكون هو الخاطف ، وهؤلاء السجانين من أكبر كبيرهم إلى أصغر صغيرهم هُم المخطوفين ، ثم يظهر فجأة أمام مقدمة طائرته أبراج قبرص كما ظهرت يوماً ابراج اميركا أمام طائرة بن لادن.

اعتذروا منه ولم يقبل اعتذارهم ، وطردوه من الجيش فغضب على جيشهم ودعى عليه بالهزيمة ، وعاد إلى بيتهم ممنوع من السفر ومسلوب الحقوق إلا من حق واحد وهو أن يقوم في جوف الليل ويُصلي ركعتين ويدعو الله ان يُريه عجائب قدرته فيهم.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

اترك تعليقاً