زيدان في مواجهة قادة المليشيات الإعلامية الخاصة

زيدان في مواجهة قادة المليشيات الإعلامية الخاصة

انتشار الفضائيات في سماء ليبيا أبداً لا يختلف عن انتشار ظاهرة المليشيات المسلحة على الأرض. كلاهما لا يحكمهما قانون ولا أي رادع. وقد تحولت الفضائيات الخاصة في ليبيا إلى أدوات “ابتزاز مادي ومعنوي” و”وسائل ضغط سياسي” على الحكومة والسلطة التشريعية في البلاد. وسوق رخيص للدعاية السياسية وصناعة النجوم ومنابر لحرق الخصوم. ومعامل لصناعة “الرأي العام” وتوجيهه كل حسب توجهه وأجندته. وأداة فاعلة لخلق بؤر التوثر والنزاع بين مكونات المجتمع الليبي. وخلق حالة من الإنقسام والتطرف الجهوي والقبلي.

ووجود هذه الفضائيات خلق حالة من الإنفلات الاعلامي الذي لا تحكمه أية ضوابط أو اخلاقيات أو أية ثوابت لا اخلاقية ولا دينية ولا مهنية ولا حتى احساس بالإنتماء لهذا الوطن. ولا تختلف حالة الانفلات الأمني التي تعانيها ليبيا عن حالة الانفلات الإعلامي فيها. ومثلما هناك مستفيدون من واقع “الانفلات الأمني” في البلاد هنالك الكثيرون أيضاً من هم مستفيدون بالطبع من حالة “الانفلات الاعلامي” في ليبيا الجديدة.

وليس مبالغة القول بأن الإرتباط وثيق جداً ما بين حالتي الانفلات الأمني والاعلامي. فالفضائيات الخاصة الليبية والفضائيات العربية والأجنبية الموجهة تغذي بشكل مباشر حالة الفوضى وعدم الاستقرار وتساهم هذه الفضائيات بقوة بإطالة عمر الفوضى الأمنية وحالة الفراغ السياسي في ليبيا الجديدة وترسيخ حالة الانقسام والاقتتال القبلي والايديولوجي. بل إن هذه المليشيات الاعلامية هي أشد فتكاً وأعظم خطراً من المليشيات المسلحة على الأرض.

ويتساءل البعض مالذي يدفع دولة أجنبية أو أي من رجال الأعمال للعمل على اطلاق فضائية خاصة -غير ربحية – موجهة خصيصاً لبلد ما؟ واطلاق قناة فضائية كما نعلم يقتضي انفاق (الملايين من الدولارات) سنوياً أوشهرياً في بعض الأحيان ؟ فهل يُعـقل أن تكون الغاية انسانية محضة وأنها مجرد “عمل خيري” ابتغاء “مرضاة الله”..! ولا أحد يستسيغ فكرة أن تلك “الملايين” التي تهدر على هذه القنوات من أجل البر والإحسان …!

ما هي أسباب تغييب وإضعاف الإعلام الرسمي للدولة الليبية الناشئة؟

حتماً إن تغييب الإعلام الرسمي للدولة الليبية ليس بسبب العجز ولا بسبب قلة الإمكانيات والموارد أو الإفتقار للكوادر البشرية المتخصصة كما هو مُعلَن. لأن الإعلام صناعة، ومتى ما توفرت الموارد المالية كان من السهل جداً النهوض بهذه المؤسسة، وكل الإمكانات المادية والبشرية يمكن تأمينها وتدريبها ويمكن الإستعانة بأهم المختصين والمبدعين عربياً ودولياً، كما فعلت وتفعل كثير من دول العالم، وهذه ليست بحجة، ومسألة ضعف الامكانات ونقص الكوادر المتخصصة هي درائع واهية…!

فليس هناك ترسانة اعلامية قوية في العالم اعتمدت فقط على العناصر المحلية لدولها وإنما جميعهم يستعينون بأفضل الخبرات ومن أنحاء مختلفة من العالم. فلا الـ BBC  ولا الـ CNN ولا الجزيرة و لا العربية ولا غيرها كانوا قد نجحوا بفضل الخبرات والكوادر المحلية للبلدان التي تمتلك تلك القنوات. فأفضل الخبرات العالمية وأفضل الكوادر الاعلامية يتحولون الى خادم مطيع وآلة تسويق لخطاب الدولة التي تحتضنهم وتدفع لهم. فوراء كل اعلام قوي وناجح عقل مدبر وأموال تنـفـق بسخاء.

ولكن الحقيقة هي أنه تمت عن قصد عرقلة قيام الاعلام الرسمي للدولة الليبية الناشئة وبتواطؤ مباشر من المسؤولين السابقين. لغرض افساح المجال لتغول عدد من الفضائيات الخاصة سواء التي تتبع دولاً عربية معينة أو التي تتبع رجال اعمال ليبيين أو أجانب. بغية السيطرة على توجيه الرأي العام الليبي. والحفاظ على مناخ الإضطراب والفوضى المُفتعلَة. والذي حدث مع مؤسسة الاعلام الرسمي حدث ايضاً مع مؤسسة الجيش ومع مؤسسة الأمن والقضاء.

وسواء شئنا أم أبينا فإن (الاعلام) هو ما يتحكم في المزاج العام في الدولة والرأي العام لمواطنيها وألوياتهم. وكما تستطيع خلق حالة من الإضطراب والفوضى واشعال الحرب بواسطة الإعلام تستطيع في المقابل تحقيق القدر الكبير من الطمأنينة والإستقرار وبث روح الإخاء والوحدة الوطنية من خلال الخطاب الاعلامي السائد في الدولة. وهذه مسألة يدركها كل متخصص بهذا المجال.

مقترح زيدان بإنشاء وزارة للاعلام واصطدامه بقادة المليشيات الاعلامية:

ولكن … يبدو – أنه خلافاً لسلفه – انتبه باكراً السيد “علي زيدان” رئيس الحكومة الليبية الجديدة وبدعم من عدد من أعضاء المؤتمر الوطني العام لـ “خطر وسائل الاعلام” ولخطر حالة “الإنفلات الأعلامي” التي تعانيها ليبيا ما بعد 17 فبراير. فكان قراره أو مقترحه بإنشاء وزارة للإعلام في ليبيا يـُـعَد خـطوة جــريئة وشـجاعة وهذه تمثل أولى الاختبارات الصعبة بالنسبة لزيدان والتي ستدفعه للإصطدام بـ (لوبي مالكي الفضائيات) أو الأحرى بـ (قادة المليشيات الاعلامية الخاصة) والذين بالطبع لا يريدون لمثل هذه الوزارة أن تبصر النور.

لا أتردد هنا في وصف (أصحاب القنوات الفضائية الخاصة الليبية والعربية منها) بـ (قادة المليشيات الاعلامية الخاصة). لأنه لا أحد يغيب عنه اليوم أن “وسائل الاعلام” هي أحدى أهم وسائل الحرب والسلم … بل لم يعد بالإمكان خوض حرب ضد أي دولة أو أي نظام سياسي أو أي فئة معادية بدون مساندة ترسانة اعلامية ضخمة وقوية. كما لايمكن في المقابل بناء دولة والسيطرة عليها بدون مساندة (آلة اعلامية قوية).

ولعله يحضر في الأذهان أمثلة كثيرة لدول عظمى أسقطت عروشها (الآلة الاعلامية) ودول أخرى لم تكن شيئا أو كانت نسياً منسياً فظهرت على السطح كلاعب قوي وأساسي على الساحة الدولية بفضل (امتلاكها لآلة أو ترسانة اعلامية قوية) ومنها بعض من دول الخليج العربي. وكذلك لا ننسى اسرئيل وأمريكا … فمن منا دخل أمريكا ولم يُصدم بأنها أبداً ليست تلك الدولة العظمى التي نتخيل والتي خدعتنا بها هوليود وآلتها الاعلامية القوية..! أومن كان يصدق مثلاً بأن “الجزيرة” ستكون البيضة المعجزة التي امتلكها الأمير البدوي الطموح …؟ وفي المقابل أيضاً هنالك دول عظمى سقطت بسبب الحرب الاعلامية من بينها الإتحاد السوفييتي.

وأيضاً غير بعيد عنا رأينا الدور الذي لعبته الآلة الاعلامية في قيادة ثورات ما يُعرف بـ “الربيع العربي” والتي لولا مساندة الترسانة الاعلامية “الخليجية” و”الأجنبية” لما كتب لها النجاح وكان مصيرها كأي انتفاضة شعبية أخرى يتم قمعها وسحقها من قبل النظام الحاكم ودون أن يدري بها أحد والشواهد على ذلك كثيرة ومنها الانتفاضة العراقية في التسعينات وانتفاضة 17 فبراير الأولى في بنغازي وغيرها كثير ولازال يحدث حتى الآن ومنها انتفاضة السودان في الصيف الماضي وانتفاضة البحرين وانتفاضة اهالي القطيف والرياض والتي صورها الاعلام الخليجي على أنها مجرد حراك طائفي، واخمدت في مهدها.

فالترسانة الاعلامية وحدها من بإستطاعتها أن تؤجج أي حراك شعبي مهما كان محدوداً لتضخمه وتستطيع أيضا أن تفرض التهدئة وتعمل (ككاتم صوت) لرصاص أسلحة وهراوات بوليس قمع المظاهرات.

لذلك لم يكن مستغرباً تلك العرقلة المتعمدة للاعلام الرسمي الليبي وأن تنتشر في المقابل الفضائيات الخاصة في ليبيا كإنتشار المليشيات المسلحة الخارجة عن القانون والخارجة عن سلطة الدولة. ولم يكن مستغرباً أيضاً أن تنطلق البداية من العاصمة القطرية الدوحة، ولتلحق بها بقية الدول التي لديها مصالح قوية ومساعي للسيطرة والهيمنة أو مساعي للتخريب والتدمير والحيلولة دون استعادة ليبيا لعافيتها ونجاح المشروع الديمقراطي والتغيير السياسي في ليبيا الجديدة والحرص على استمرار حالة الفوضى والانفلات الأمني في ليبيا. ومنها ما هو لأسباب سياسية أو لأسباب اقتصادية.

فليبيا بمواردها وموقعها الجغرافي مقارنة بقلة عدد سكانها تشكل فعلاً منافساً قوياً في المنطقة بأسرها وهنالك كثير من الدول وحتى الغنية منها وأقصد بعضاً من دول “الخليج العربي” من ليس من مصلحتها قيام دولة ليبيا ذات الاقتصاد القوي والمستقرة أمنياً وسياسياً. كما أنه ليس من مصلحتهم أيضاً نجاح “مشروع الثورة” وقيام نظام ديمقراطي نموذجي كما يحلم الليبيين … لذلك فالحفاظ على حالة الفوضى والانفلات الأمني وعدم الاستقرار في ليبيا هو حفاظ على عروش عربية كثيرة معرضة للتصدع والانهيار.

لذلك وكما سعت تلك الدول لدعم وتمويل المليشيات المسلحة بالمال والسلاح سعت أيضاً لزرع فضائيات ليبية يديرها في الواجهة (شخصيات وأطقم اعلامية ليبية) سواء من يدعون بأنهم رؤوس أموال أو من يدعون بأنهم (مناضلين سابقين) ضد نظام القذافي. وقد تحولوا إلى دمى وعرائس تحركها أجندات تلك الدول. وليس بوسعهم الممانعة لأنهم يتقاضون مرتباتهم ومرتبات موظفيهم وكل طاقم قنواتهم من تلك الدول. والمعروف اعلامياً أن (الممول المالي) هو من يتحكم في الخطاب الاعلامي لأي وسيط اعلامي سواء مرئي أومسموع أو مقروء، ولو أدعوا غير ذلك.

هذا ضافة لوجود فضائيات يديرها بالفعل “رجال أعمال” هم من أثرياء نظام القذافي ويحرصون على انفاق الملايين على تلك الفضائيات الخاصة لإستخدامها كأوراق ضغط وإبتزاز أو يعملون سواء بشكل مباشر أو غير مباشر لزرع الفتنة وتكريس الخطاب الجهوي والقبلي والعنصري من خلال قنواتهم وفضائياتهم الخاصة مستفيدين بمظلة (حرية الرأي وحرية التعبير وغياب قانون أو وزارة تضبط سلوكهم المنفلت). ومن أولئك من تعمّد أن تحمل قنواتهم وفضائياتهم أسماء مدن أو اسماء قبائل بعينها ومنهم من اختبأ خلف شعار (ليبيا) ليبث كل منهم سمومه الجهوية والمناطقية والعنصرية وخطابه التحريضي وممارسة الإبتزاز السياسي كل على طريقته. هذا اضافة لدعمهم المالي والاعلامي لمليشيات جهوية وقبلية محددة على الأرض.

ولذلك كان متوقعاً أن ترتفع أصوات الشجب والاستنكار والمعارضة من قبل اصحاب أو مديري هذه الفضائيات الخاصة رفضاً لهذه الخطوة الجريئة لانشاء وزارة للإعلام تضبط حالة الفلتان والهيجان الاعلامي في ليبيا. ولم يكن مستغرباً بأن يكون على رأس أولئك الاعلامي الليبي محمود شمام الذي عينته دولة قطر رئيساً لمجلس إدارة القناة القطرية المسماة “ليبيا لكل الأحرار”. قد وصف قرار زيدان بإنشاء وزارة للأعلام بأنه قرار استبدادي. وخصصت قنوات خاصة أخرى برامج مكثفة لمحاربة فكرة انشاء الوزارة متحججين بأنها تكميم للأفواه وتقييد لحرية التعبير.

ونتوقع بأن مهمة السيد علي زيدان لن تكون أبداً سهلة ومسألة فرض سيطرة الدولة الليبية على مؤسسة الاعلام وتقنين عمل الفضائيات وكبح جماح هذه المليشيات الاعلامية المنفلتة ليس بالأمر الهين على الاطلاق. كما أنه يحتاج لشخصيات اعلامية وطنية قد يجد صعوبة بالغة في التقاطها في ظل هذه الفوضى، ولكنها ليست بالمستحيلة وخصوصاً مع وفرة الموارد المالية للبلاد.

(فالمال هو العصب الأساسي للإعلام) فلو نجح زيدان بإنشاء فضائيات وطنية رسمية قوية ومنافسة سيكون حقق الشيء الكثير. وبالطبع فإن فعالية ونجاح أي قناة فضائية يتناسب طردياً مع حجم الإنفاق عليها فكلما زاد التمويل وزادت مرتبات الإعلاميين بالقطاع الرسمي للدولة استطاع استقطاب العناصر الاعلامية الجيدة سواء من االاعلاميين الليبيين أو العرب والأجانب.

وأخيراً أتوجه للسيد علي زيدان بالقول: بأنك لو نجحت بالسيطرة على الإنفلات الاعلامي واستطعت كبح جماح المليشيات الفضائية ولو نجح جهاز مخابراتك في تقييد ومراقبة حركة المخابرات الأجنبية والجواسيس الذين يجوبون ليبيا ببطاقة (مراسل صحفي) سواء كانوا من جنسيات ليبية أو أجنبية، ونجحت بإطلاق فضائية ليبية رسمية واحدة وقوية ستكون قد قطعت مسافة ألف ميل في خطوة واحدة نحو تحقيق الأمن والإستقرار في ليبيا.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

اترك تعليقاً