صناعة التطرف

صناعة التطرف

عطية الأوجلي

وزير الثقافة السابق في الحكومة الانتقالية الليبية

(1)

لم يكن للتطرف السياسي أو الديني شأن أو تاريخً يُذكر في ليبيا.. فالتطرف لا ينمو إلا في مناخ خاص, وتربة شديدة الخصوبة و لا يترعرع إلا في بيئة تغذيه بالكره و تصنع له الازمات و تدفع به نحو العنف …. و هو يُولد عادة نتيجة انقسامات حادة في المجتمع .. ( أما لفوارق سياسية و اقتصادية هائلة كما حدث في بعض الدول الصناعية المتقدمة التي شهدت بروز منظمات سياسية متطرفة تجعل من العنف وسيلتها و من الارهاب أسلوبها كمنظمات الألوية الحمراء بإيطاليا .. و الجيش الأحمر الياباني ومنظمات اليسار المتطرف بأمريكا اللاتينية… و أما أن تستند الفوراق الى أرث تاريخي و ديني و عرقي كماهو الحال لدى الجيش الجمهوري الايرلندي ..و منظمتي ايتا و الباسك الإنفصاليتين في أسبانيا و فرنسا….الخ)… او يكون التطرف نتيجة لتعبئة ذهنية استقصائية حادة كما هو الحال في بعض المذاهب و الحركات الدينية و السياسية المتطرفة التي تستأثر بالحقيقة و تنكر الاختلاف و تمارس العنف كوسيلة لمجابهة ما تراه اختلافا عن فكرها وعن طريقها القويم (!!)

(2)

ينشأ المنتمي لهذه الجماعات متزمتا رافضا للحوار مع الغير ، يستند في رؤياه على احكام قطعية عامة دونما مراعاة لإختلافات الازمنة و الاماكن و البشر.. و دونما التقيد بتعاليم الدين التي تدعو الى الحوار و الى المجادلة بالتي هي احسن… لا يرى في أحكام الدين سوى ما يعزز من إحساسه بالتفرد و التميز .. ويغذى رغبته الجامحة في التمرد على القيم و المفاهيم و النظم السائدة.. و هو ما يتماشي مع التكوين النفسي لسن الشباب و ما يصاحبها من تقلبات فيزيولوجية و ذهنية.. وغالبا ما تكون دوافع هؤلاء الشباب حسنة ولكنها التعبئة الخاطئة و الاستغلال السياسي لهم من قبل قادتهم …و قلة الخبرة و المعرفة لديهم هي التي تسهم في عزلتهم عن المجتمع و كراهيتهم له. كما أن غياب قيم الحوار و التسامح في المجتمع و نزوع اجهزة الاعلام و المثقفين الى التعبئة المضادة و الى الادانة القطعية الشاملة لهذه الحركات يزيد عادة من حدة الاحتقان داخل المجتمع و يدفع بالطرفين الى مواجهات دامية.. و يقذف بالوطن نحو المجهول.

(3)

لكن المشهد السياسي و الديني في ليبيا اختلف كلياً عن المشهد في العديد من الدول العربية و الاسلامية … فغياب صراع الاديان و الطوائف .. وغياب الانقسامات المذهبية الحادة .. و وجود نسيج اجتماعي متماسك أدت كلها إلى سيادة الاعتدال و التعقل و الى محدودية الدعوة الى التطرف..و الى حرمان التطرف من بيئة تغذيه و تسهر على نموه وإزدهاره. فلم تبرز مثل هذه التيارات في ليبيا إلا كرد فعل على سياسات الطاغية الجنونية و على استبداده المطلق بأمور البلاد و العباد.. و وسط حالة من الفراغ السياسي و الثقافي و الديني المريع التي انتجته و رعته سياسات النظام.

فالتطرف لدى السلطة غالبا ما يؤدي الى التطرف عند القوى المعارضة لها. و لكن و للأمانة اقتصر جانب العنف لدى هذه الحركات على مجابهة النظام فلم يسجل لها إي موقف سلبي تجاه المجتمع و أفراده …بل أذكر أنه في سنوات المواجهة المسلحة بين شبابنا الملتزم دينيا و بين قوات الطاغية بمدينة بنغازي … لم يقم الشباب على الاطلاق بالاعتداء على محلات الفيديو أو على دور السينما أو محلات الذهب أو على المواطنين الآمنين أو على النساء كما حدث في بعض الدول العربية و الاسلامية الأخرى… بل على العكس هم كثيرا ما ضحوا بأنفسهم من اجل حماية الغير .. رغم ضراوة و قساوة المواجهة .. ورغم الموقف السلبي لمعظم الناس من تلك المواجهة.

(4)

اليوم … يبدو أن هناك من يسعى جاهدا لتهيئة و تمهيد التربة لإصطناع صراع دموي او على الأقل الترهيب و التخويف به مستغلا بعض الاحداث و موظفا لأجهزة إعلام متعطشة للإثارة و غير مبصرة بعواقب الأمور .. ومستغلاً لقلة الخبرة السياسية لدى الجمهور.. لخلط المفاهيم و الدفع بالوطن نحو أزمات حادة … و بالتالي نحو انتشار العنف كوسيلة لحل إي خلاف أو إختلاف. فصرنا نشاهد حلقات من سلسلة إغتيالات ذات ابعاد سياسية تهدف الى خلق تراكمات من الخوف والى انعدام الاحساس بالأمن تمهيدا لطرح مشاريع سياسية معينة تكون التربة قد تهيئت لها. و صرنا نشاهد حلقات من مسلسل تشويه الرموز الوطنية و الدينية و تجذير الهوة بينها و بين الجمهور لخلق حالة من الفراغ المرغوب و المطلوب.

(5)

وهكذا تتقلص مساحة الحوار .. وتطفو على سطح السياسة روح الاتهام و التعميمات و التصنيفات وبدلا من أن يصبح الحديث السياسي في ليبيا منصبا على القضايا والتحديات الهامة التي تواجهنا .. من بناء الدولة و إعادة هيكلتها وفق دستور يختاره الشعب.. و إصلاح الإدارة و تحديثها …..الى تطوير الاقتصاد و اصلاح التعليم .. و تطوير البنى التحتية …الى القضاء على الفساد بأشكاله المتعددة … صرنا نرى الجدل السياسي في ليبيا المعتدلة و المسلمة ينحصر في حوار طرشان عن “الشريعة” و ” العلمانية” ..!! وسط “استقطاب حاد” و ” تعبئة جماهيرية ” من كل الأطراف…!!.. وكأن هناك ما يهدد الاسلام الراسخ في هذه البلاد .. او أن هناك حكومة دينية على طراز العصور الوسطى تقف خلف الأبواب .. أو كأن هذه هي أولويات و مشاغل الشعب الليبي الذي حُرم طويلاً من حقوقه في الحياة الكريمة و من العيش بكرامة على أرضه … ومالم يتغلب صوت التعقل لدى الجميع و يتم الانتباه الى هذا المنزلق الخطر .. و يسود الاقتناع بأن هذا الوطن هو ملك لجميع ابنائه و بناته وأنه لا سبيل لبنائه سوى بالتوافق الوطني عبر الحوار وعبر احترام التنوع و الاختلاف و سيادة القانون وتغليب المصلحة العامة … مالم يتم ذلك … سنكون قد أسهمنا جميعا في صناعة التطرف …. وسندفع لا محالة .. كل تكاليفه …!!!!!

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

عطية الأوجلي

وزير الثقافة السابق في الحكومة الانتقالية الليبية

التعليقات: 2

التعليقات مغلقة.

التعليقات لا تعبر عن رأي موقع عين ليبيا، إنما تعبر عن رأي أصحابها.

اترك تعليقاً