علاقة الإسلام بالسياسة في نصوص القرآن والسنة وواقع التاريخ

علاقة الإسلام بالسياسة في نصوص القرآن والسنة وواقع التاريخ

كثر الحديث في الشارع الليبي عن علاقة الإسلام بالسياسة بين مؤيد ومعارض ، ولعل فتوى سعادة المفتي الأستاذ الدكتور الصادق الغرياني بعدم جواز التصويت للعلماني ، وتعليق الدكتور محمود جبريل حول هذه الفتوى ، بقوله: دع مالله لله ومالقيصر لقيصر ، وحديثه عن فصل الدين عن الدولة ،  مما ساعد من حدة النقاش في هذه المسألة خلال الفترة الأخيرة ، كان هذا سببا رئيسا في كتابتي لهذا المقال ؛ لأنيط من خلاله اللثام عن علاقة الإسلام بالسياسة ، وأوضح لأحبتي القراء ممن التبس عليهم الأمر عظمة هذا الدين ، وشموليته لجميع نواحي الحياة .

فعلاقة الإسلام بالسياسة أمر ثابت لا مجال لإنكاره وفي القرآن الكريم والسنة النبوية من النصوص المتعددة ما يقدم برهاناً واضحاً على ذلك، بل إذا عدنا أدراجنا إلى التاريخ الواقعي للمسلمين في صدر الإسلام فإننا سنجد حتماً ما يقدم برهاناً عملياً على أن السياسة لا يمكن أن تنسلخ من المجال العريض للإسلام.

فقد جاء في نصوص القرآن آيات تحث على الشورى وتوجب طاعة ولي الأمر، وأخرى تعلي من شأن العدل باعتباره أساس الحكم الصالح والإدارة السليمة ثم هناك الإخوة الإسلامية وما يؤكد مبدأ المساواة بين الجميع وجعل التفاضل بين الناس بالتقوى والعمل الصالح، فضلا ًعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومعاملة أهل الذمة وغير ذلك كثير، أما السنة النبوية فهي حافلة بالنصوص التي تتناول شؤون السياسة كقوله r: “كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته” وقوله r: “لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق” …

نخلص من هذا كله أن القرآن الكريم والسنة الشريفة لم يغفلا جانب السياسة في حياة المجتمع الإسلامي، بل قدما المبادئ الهادية الموجهة، وتركا التفصيلات تحدد ملامحها الدقيقة ظروف كل عصر ومصر دون أن تنحرف عن روح الإسلام الأساسية.

فإذا جئنا إلى التاريخ الواقعي للدولة الإسلامية في عصرها الأول لنلتمس فيها برهاناً على ارتباط الإسلام بالسياسة وجدنا ذلك البرهان واضحاً أمامنا غاية الوضوح فمنذ بيعة العقبة الثانية في ذي الحجة من العام الثالث عشر للبعثة بدأت نواة الدولة الإسلامية تتكون في يثرب، حيث كانت هذه البيعة مقدمة حقيقية لهجرة رسول الله r وأصحابه إلى المدينة المنورة، وقد تحققت بالهجرة المباركة كل عناصر الدولة الشعب والأرض والقيادة.

فالشعب يتمتع بأغلبية مسلمة وهم المهاجرون والأنصار، وأقلية غير مسلمة من يهود بني قينقاع وبني قريظة وبني النضير، فضلاً عن بقايا الوثنيين، وهذا الشعب يقيم على أرض محددة المعالم وله قيادة متمثلة في رسول الله r.

وقد كان من بين أهم ما بدأ به رسول الله r حياته في المدينة أنه كتب كتاباً نظم فيه العلاقة بين المسلمين وغيرهم في مجتمع المدينة وأشار إلى هؤلاء جميعاً بأنهم أهل الصحيفة، فتعد هذه الصحيفة بمنزلة دستور الدولة الإسلامية الناشئة في المدينة لذلك درج كثير من الوثنيين على إطلاق مصطلح دستور المدينة أو ميثاق المدينة على هذه الصحيفة التي كفلت لليهود حرية الدين والعبادة وأمنتهم على أنفسهم وأموالهم، كما أعلنت أن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وأن بينهم النصرة على من حارب أهل هذه الصحيفة، أي حارب أهل المدينة، وهو مايمكن تسميته بالدفاع المشترك عن المدينة.

ثم أصدر الرسول r حكماً عاماً يشمل أهل الصحيفة أي جميع أهل المدينة حيث قال: ” إنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله r”.

وهكذا أصبح سيدنا محمد r بمقتضى هذه الصحيفة الرئيس الأعلى للمدينة بجانب قيادته الروحية للمجتمع الإسلامي فيها، ومن ثم فقد تولى مسؤولياته رئيس الدولة بالمفهوم الحديث، حيث نظم شؤون الحرب والسلم، وعقد المعاهدات وجبى الأموال من مصادرها وأنفقها في وجوهها وأقام الحدود والأحكام وفصل في المنازعات واستقبل السفارات، وعين الولاة والقضاة، وباختصار أشرف على إدارة شؤون هذا المجتمع الناشئ بما يحقق له مصالحه على أفضل الوجوه.

وبعد وفاة الرسول r كان لا بد من قائد يتولى أمور هذه الدولة ويدير مصالحها في ضوء مفاهيم الإسلام ومبادئه، ومن هنا أجمع المسلمون على ضرورة اختيار من يخلف الرسول r في هذه المهمة الجليلة وهي مهمة رئاسة الدولة فكان اختيار أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ـ رضي الله عنهم ـ بالصورة التي فصلتها كتب التاريخ.

لأجل هذا التاريخ الواقعي والعملي لعلاقة الإسلام بالسياسة لم تكن هذه القضية محل جدل أو مناقشة بين جماهير المسلمين، بل كانت أمراً مسلماً به حتى خرج علينا الشيخ علي عبد الرازق () بمؤلفه المشهور (الإسلام وأصول الحكم) الذي ذهب فيه إلى أن الخلافة دخيلة على الإسلام وهي مصدر قهر واستبداد، كما يشير مؤلف هذا الكتاب إلى أن الإسلام دين خالص وعلاقة بين العبد وربه، ولهذا فلا صلة له بشؤون السياسة وأمور الدولة، فهو يستند في ذلك إلى أن محمداً r كان رسولاً لدعوة دينية خالصة لا تشوبها نزعة ملك ولا دعوة لدولة.

وأفضل ما يرد به على هذا الكلام: هو ما سبق أن أشرت إليه من أن الإسلام يقدم نظاماً متكاملاً لحياة البشر في كل زمان ومكان، يقدم نظاماً كلياً بطبيعته، يهتم بالأساسات التي تشكل الإطار العريض أو الأساس، ويترك التفصيلات لاختيار الناس في ضوء الظروف المتغيرة، حتى يتوافر عنصر المرونة لهذا النظام ويمكن تطبيقه في البيئات والأزمنة والأمكنة المختلفة … ولو أن الإسلام قدم التفصيلات الدقيقة لكل شيء لما كان ديناً صالحاً لكل زمان ومكان، بل لتجمدت الأحكام وما استطاعت أن تواكب تطور الحياة وتغيرها المستمر، فلا قداسة في الأسماء فالخلافة يمكن أن تسمى ولاية أو إمارة أو إمامة أو رئاسة أو حكماً، ويبقى الجوهر واحداً، وهو قيام من يتولى أمر المسلمين ويدبر مصالحهم في ضوء المبادئ العامة التي أرساها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.

وللرد على ما أورده الشيخ علي عبد الرازق بخصوص مسألة الخلافة فالحري بالتقرير أن الخلافة التاريخية انحرفت في بعض مراحلها عن مسارها الإسلامي الصحيح، فأصبحت حكماً وراثياً وشابته نزعة استبداد أحياناً، كانت تتفاوت حدة وضعفاً كما حدثنا عنه المفكرون وناقشه ابن خلدون في مقدمته، حيث تناول بالشرح كيف انتقلت الخلافة إلى ملك، ولكن هذا لم يدفع أحداً إلى محاولة هدم فكرة الخلافة أو الحكم الإسلامي من الأساس، فالمعروف أن الانحراف عن المبادئ الصحيحة لا يدين المبادئ ذاتها بقدر ما يدين العابثين بها.

س/ هل يكلف الإسلام أتباعه بإقامة الدولة؟ وما طبيعة هذه الدولة؟ وما دورها في إدارة أفراد المجتمع؟ وما حدود سلطاتها؟

وللرد على من يذهب إلى أن النبي r ما كان إلا رسولاً لدعوة دينية خالصة لا تشوبها دعوة ملك فإن ما نحتاج إلى توضيحه هو أن الدولة الإسلامية تتكون نتيجة طبيعية لوجود المجتمع المسلم في أرض له فيها سيادة، فلا بد للمجتمع في هذه الحالة من أن يقيم لنفسه سلطة أو حكومة ترعى شؤونه وتدبر مصالحه في ضوء تعاليم الإسلام وقيمه الأساسية .. وهكذا تنشأ الدولة الإسلامية حيث تتكامل أركانها من شعب وأرض وحكومة، وبعبارة أخرى كثيرا ًما يساء فهمها أن الإسلام دين ودولة … فهذه العبارة لا تعني على الإطلاق أن الدولة جزء من العقيدة الإسلامية، بحيث لا يصح إسلام المرء إلا بإقامتها فقد بني الإسلام على خمسة أركان معروفة، وليس من بينها الاعتقاد في وجوب تكوين دولة إسلامية.

فقد يوجد المسلم في أرض لا ينتمي شعبها ولا حكومتها للإسلام ويمارس شعائره الدينية ويلتزم بأحكام الشريعة الإسلامية، وهو في هذه الحالة مسلم صحيح الإسلام كل ما تعنيه العبارة السابقة هو أن المسلمين إذا كانت لهم السيادة على أرضهم وجب عليهم إقامة حكومة تدير شؤونهم بتوافق مع المبادئ العريضة للإسلام.

فليس من المقبول أن تسير حكومة الشعب المسلم في اتجاه معاكس للإسلام رافعة شعار الفصل بين الدين والدولة؛ لأنه لا فصل بين الدين والدولة بهذا المفهوم مع الموافقة التامة على أن الرسول r ما جاء ليقيم ملكاً وينشئ دولة.

ولعل منشأ الاختلاف في هذه الآراء هو ما لاحظه الدكتور عبد الرازق السنهوري: أن الشيخ عبد الرازق ومن نَهَجَ نهجه يستخدمون مصطلح الدولة ومصطلح الدين بالمفهوم الأوروبي الحديث، فالدولة هي مجموع السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، والدين هو القواعد التي تتعلق بعقيدة الفرد وعلاقته بربه وعباداته، ومن هنا يرون أن النبي r لم ينشئ دولة بالمعنى المعروف في عصرنا، ولكن فاتهم أن فكرتي الدين والدولة لم يكن التمييز بينهما بهذا الوضوح في عهد الرسول r لأن النظم السياسية كانت تقوم غالباً على اعتبارات دينية، دون أن يغير ذلك من طبيعتها المدنية.

س/ هل يؤدي ربط السلطة بالدين الإسلامي ـ بالضرورة ـ إلى تأسيس سلطة دينية (ثيوقراطية) لا تعترف بالحريات والحقوق المدنية؟

هذا وينزعج البعض من فكرة ربط الدين والدولة في الإسلام فيصفون الحكومة الإسلامية مثلاً بأنها حكومة ثيوقراطية أو حكومة رجال دين على الرغم من الفارق الشاسع بينهما، إذ تتسم الحكومة الثيوقراطية أو حكومة رجال الدين بالتسلط، بينما تتسم الحكومة الإسلامية بأنها على النقيض من هذا التسلط فهي أساسها مبدأ الشورى، والحاكم فيها لا يملك سلطة كهنوتية، وليس له حق احتكار الشريعة، فهو في هذا المجال كغيره من أفراد الرعية.

وهكذا لا تتعدى فكرة الربط بين الدين والدولة مفهوم أن يسير الحكم في ضوء المبادئ الإسلامية الراسخة للإسلام، ثم يتمتع نظام الحكم بعد ذلك بخاصية التطور والتكيف مع الظروف المحيطة ..

 ولهذا نجد أنفسنا على اتفاق تام مع ما يقرره المفكر الإسلامي محمد أسد بهذا الخصوص إذ يقول: [ يمكننا أن نقرر باطمئنان أنه لا يوجد شكل واحد للدولة الإسلامية، بل إن هناك أشكالاً كثيرة، وأن على المسلمين في كل زمان أن يكتشفوا الشكل الذي يلاءم ويحقق حاجاتهم، شريطة أن يكون الشكل والنظام اللذان يقع عليهما الاختيار متفقين تماماً مع الأحكام الشرعية الظاهرة المتعلقة بتنظيم حياة المجتمع ].

 د .  عادل سالم الصغير بن جليل

عضو هيئة تدريس بجامعة عمر المختار

 () تخرج من الأزهر واشتغل بالقضاء الشرعي وتولى وزارة الأوقاف وتوفي 1966م نشر كتابه هذا سنة 1923م.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

التعليقات: 1

التعليقات مغلقة.

التعليقات لا تعبر عن رأي موقع عين ليبيا، إنما تعبر عن رأي أصحابها.

اترك تعليقاً