عليكم بالعلماء

عليكم بالعلماء

عمر الفيتوري السويحلي

مؤسس أكاديمية القرآن الكريم بطرابلس

لن أُضيف معلومة إن قُلت أن العرب قبل الاسلام كانوا قبائل متناحرة، وعشائر متقاتلة، تنافرت قلوبهم، وتباعدت آراؤهم، وكانوا يتباهون ويفتخرون بذلك وما كان من شيء على البشر أعسر من توحيدهم صفا واحدا حتى أن القرآن قال: (لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًا مَّآ أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) الأنفال 63، جاء الإسلام فوحدهم وأذاب كل الفوارق، لم يوّل اللون ولا العِرق والنّسب والأصل أهمية، وإنما فاضَل بينهم في شيء لا يقتصر على طائفة دون غيرها ولا قبيلة دون القبائل الأخرى ألا وهو القرب من الله وتقواه، والآيات والأحاديث كثيرة: فخير الناس في ميزان الشرع أنفعهم للناس وخيرهم من طال عمره وحسن عمله ولا أكرم عند الله من التّقي وميدان الخيرية هذا رحب لا يبلغ منتهاه المتفاخر المتعجرف وإنما التّقي النّقي لا إثم فيه ولا غِل، ولذلك حرص الإسلام حِرصا شديداً على توحيد الصف والتآخي فكان هو حجر الزاوية في بناء الدولة بل أنه ما ترك شاردة ولا واردة ذات علاقة بتوحيد الصف وبنبذ الفرقة والخلاف إلاّ طرقها.

وديننا أمر بالجماعة ودعا إليها، وحذر الفرقة والخلاف ونهى عنها، ودعا إلى الالتزام بأوامر الشرع، والإذعان للحق والانقياد إليه، ونهى عن الإصرار على الباطل والعِناد، فقال الله سبحانه: (وَ ٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ ۚ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِۦٓ إِخْوَٰنًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍۢ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) آل عمران 103.. ففي هذه الآية يأمرنا سبحانه بالاعتصام والاجتماع على الحق، والتمسك به يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (أمرهم بالجماعة، ونهاهم عن التفرقة) ولا يكون ذلك إلاّ بملازمة جماعة المسلمين، وعلى رأسهم العلماء الموثوق في دينهم وصدعهم بالحق، لأن الحق سبحانه وتعالى يقول: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) النحل 43.. فأمرنا باتباعهم وطلب فتواهم وإرشاداتهم في الدين، فإن ما يكرهه المرء في الجماعة خير له مما يحب في الفرقة.

وقد حذر الله سبحانه في آيات أخر من التفرق والاختلاف وترك الجماعة، ونهانا أن نكون كأهل الكتاب الذين تفرقوا واختلفوا ولم يجتمعوا، فقال سبحانه: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) آل عمران 105.. لأنه أسوأ أنواع الخلاف ما كان في الدين، ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول: “عليكم بالجماعة وإيّاكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة” فبالاجتماع على الحق والخير يُصلح أمر هذه الأمة وبتفرقها وتشتتها تضيع وتندثر فيضيع دينها، وتذهب هيبتها ومكانتها وتتكالب عليها الأمم الكافرة فتُنهب خيراتها، وتنتهك سيادتها “فالجماعة رحمة، والفرقة عذاب”.

لا خير في عادة ولا عبادة تقود إلى التفرق والتشرذم واتباع أهل الأهواء الذين من أجل تحقيق مآربهم وأغراضهم لا يبالون أيفسدون على الناس دينهم أم دنياهم وهم نفس زمرة الأمس الذين افسدوا علينا الصيام والعيد وكل عبادة لتطويع الناس وإثبات أنهم على صلاح وتُقى وأنهم الأولى بالاتباع وسلكوا من أجل ذلك مسالك كلها الهدف والغاية منها ضرب الثوابت بالطعن في العلماء ونقد مناهجهم والتّهكم عليهم ووصفهم بأوصاف الهدف والغاية منها إبعاد الناس عنهم وإفساح المجال لرؤوس جُهال يضلون ولا يصلحون وكل دعواهم إنما هي لطاعة من لا يطاع واتباع طواغيت وظلمة هم في الأصل عبيد لعدو لا يرضى حتى نتبع ملته وضلالته وفي كل عام يبرز هذا الخلاف وتدب ذات الفوضى في المجتمع فيقع فيها الكثير من الناس منهم من هم فعلا حائر مغيب لا يعرف ولا يدرك ولا يفهم، ولَيْته لا يتخوض في الفتن وإنما يسند ضهره لغير شهوته ورغبته فيسْلم.. ومنهم من هو صاحب غرض وغاية ولو كانت على حساب دينه لا يبالي يغرس رأسه في التراب يحسب أن الحق عُمي عن الناس وصار فتنة كغيره وآخر لا يبالي بشهادة الزور والكذب ولا يتورّع، يبيع دينه بعرض من الدنيا أو بوعود كاذبة لا تُسمن و لا تُغني والأدهى من يتحمل كل الوزر والعاقبة أولئك الذين من أجل أن يوطئوا للظلمة وتقويتهم وإيصالهم للحكم يبيعون دينهم بدنيا غيرهم والعجيب أن الكثير لا يتفطن وإنما تأخذه نفسه وشهوته في كل جولة من جولات الفتن هذه وكأنها أول مرة تحدث لا يتفطن ولا يتعظ إلا بعد فوات الأوان.

ليس تعصبا لشخص دون غيره ولا مذهب دون سواه وإنما الأصل والقاعدة دون تقعر ولا دوران كدوران الرّحى، الأصل اتباع نصوص القرآن والسنة التي ترينا أن السخرية والاستهزاء بعلماء المسلمين ومُصلحهم بخرق السفينة ويجعل من السهل الطعن فيهم والتّنقص من قدرهم ولا يقود ذلك إلّا إلى الطعن في الدين من أساسه ونقض بنيانه وهدم أساساته ولذلك نهى الشرع بشدة وغلظ العقوبة وشدد في معاملة فرد على من اعتذر بأنه إنما كان يخوض ويلعب فقال: (لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) التوبة 66.. لأنهم إذا سرى في الناس هذا الوباء باسم الحرية يجوز الطعن في كل شيء ولا شيء مبرّأ من النقد والتجريح ولا حرمة لأحد ولا قدسية لنص حتى القرآن نفسه والسنة خاضعان للطعن والتقول منها ما هو بدعوى الصحة والشك ومنها من هو بدعوى الفهم والاحتمالية، وباسم حرية الفكر تولى من تولى وأعرض وحكم هواه واستفتى من لا يُحسن القراءة ولم يشهد له بالعلم والدراية فاتخذوا رؤوسا جهالا إلى أن وصل بهم الحال إلى أسوأ مما نظن.

ما خاب الناس وخسروا وما تـأخر المسلمون إلّا وقت أن استبعدت الحكومات العلمانية الظالمة العلماء وحجموهم وهمشوهم، وقدموا عليهم أهل المجون والهوى سموهم نجوما وقدموهم في قالب إنساني حضاري تقدمي يزرع الابتسامة والفرحة وصوروا العالم على أنه مقطّب الجبين عبوس أكول نهم طماع وهذه المصطلحات انتشرت في بلدنا في السبعينيات وسرت حتى بعده لتواكب رغد العيش وتقدم الآلة فارتسمت صورة في أذهان الناس أن العلم الشرعي وأهله والتقدم لا يلتقيان وصفوا يومها كتب الفقه بالكتب الصفراء وقرنوهم بكتب السحر والشعوذة وجعلوا الفقيه والمشعوذ وجهان لعملة واحدة وسخروا منهم ووصفوهم كما وصفهم ذلك المنافق في غزوة تبوك أنهم هم أرغب الناس بطونا، وأكذبهم ألسنة، وأجبنهم في المواقف الصعبة والحرجة بعدها أتى الناس ما يوعدون وصار الحال كما هو اليوم فاستأسد قوم جهال ضلوا وأضلوا اختزلوا الدين في شكل معين وأشخاص معينين من خالفهم خرج من الفرقة الناجية وأوصد باب الجنة في وجهه حسب زعمهم.

يقول سبحانه: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) البقرة:195.. فلا تقتصر التهلكة على احتساء السم أو البقاء في البرد والعراء وإنما هلكة دين المرء أشد وأخطر وأكثر إيلاما والأولى بالتحذير منها من غيرها ولا تكون إلا بالوقوع، كل علم في نفس المكب يجد الواحد منها نفسه محل سخرية جهلة وشهود زور وإعلام فاسد يعبّد الطريق لظلمة لا يبالي بم تعبّد الطريق ولو بدين الناس ومبادئهم لنجد أنفسنا بعد زمن في نفس المكان والسبب هو البعد عن الدين فقد رأينا كيف كان الناس قبل الإسلام فرقا وقبائل مشتتة ومتناحرة لا توحدهم شريعة ولا تحكمهم غير مصلحة سيد القبيلة فما أن اعتنقوا هذا الدين وبقوا من أجله يتحملون الصعاب ويجتازون الامتحان تلو الامتحان في مكة لسنوات حتى جلس بلال وصهيب وعثمان وأبوبكر وابن عوف في صف واحد لا قيمة للون ولا للأصل ولا للنسب ولو لم يعد الأمر كذلك لما أفلح الناس اليوم ولا بعده حتى في التحرر من تبعية ظلمة الداخل والخارج.

إذا كان اجتماع المسلمين ووحدة صفهم ضرورة في كل وقت وحين، فنحن اليوم أحوج ما نكون إليه من أي وقت مضى، فالأمة تحارب أعدائها من الخارج، ويتربص بها المنافقون من الداخل ويتجرأ الجهلة على الفتوى في الدين، ويقتحم أنصاف المتعلمين على قضايا الأمة والنوازل العظام.. كل ذلك وغيره يوجب علينا التفطن فلا عذر لمن لُدغ من الجحر مرتين.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

عمر الفيتوري السويحلي

مؤسس أكاديمية القرآن الكريم بطرابلس

اترك تعليقاً