أبناؤنا وسجون فبراير

أبناؤنا وسجون فبراير

مُهاب، فتى ليبي بالكاد أكمل العشرين من عمره، ودعته أمُّه من أمام بيتهم في إحدى مدن الجنوب، ليغادرها مُتجها إلى الشمال، فيلتحق بإحدى الكليات العسكرية في مدينة من مدن ليبيا الساحلية، كان ذلك في يوم قائض من أيام شهر أكتوبر، عام 2010م.

مضت أشهر قليلة لتندلع أحداث فبراير، ويتم إُخراج الفتى وزملائه من مقر كليتهم التي سيطر عليه ثوار المدينة، ووضعوهم مؤقتاً في مدينة قريبة، لم يطل مقامهم فيها، لتنقلهم أوامر من جهات عليا إلى العاصمة  طرابلس.

مع نهاية سنة 2011، انتهت الحرب، وعاد مُهاب إلى مدينته، وقد تعثرت أحلامه بالتخرج والعمل كضابط في صفوف الجيش، وظل قابعاً في مدينته، يُمضي نهاره في مرافقة والده ومساعدته في شؤون الحياة، وبعضاً من ليله يرقب نجوم سماء مدينته الصافية، يحلم باليوم الذي سينتزع فيه نجمتين منها  ليزين بهما كتفيه، ثم لا يلبث أن ينعُس ويخلُد للنوم، ليستيقظ وقد أطل يوم  آخر لا يختلف كثيراً عن سابقه.

ولأن الخريف دائما محطة التغيير التي ينزل منها مُهاب من عربة ليركب أُخرى في قطار حياته، وفي أكتوبر من سنة 2012، أجرى معه أحد زملائه  إتصالاً هاتفياً أبلغه فيه أن كليته قد فتحت أبوابها، وأن عليه القدوم في أسرع وقت ممكن لإستكمال دراسته فيها.

لم يُصدِّق الفتى نفسه من الفرحة، فأخبر أهله على عجل بالامر والكلمات تتطاير من فمه وهو يعد حقيبته الصغيرة، ثم  توجه مسرعاً  قاصداً محطة لسيارات الاجرة مخلفاً وراءه  دعوات أبيه ودموع أمه، ليركب أولى سياراتها المتجهة شمالاً، وهو يجهل المصير الذي  ينتظره.

بعد رحلة مرهقة، تبدلت فيها الوجوه ووسائل النقل، وصل مُهابٌ غايته، وبمجرد تجاوزه  بوابة الكلية، أِنتُزع منه هاتفه النقال، وتم إعتقاله وأودع السجن، ولم يسمح له باستخدام أي وسيلة اتصال  ليعلم  ذووه  بما جرى له.

لم تُجد إتصالات الحاج، بهاتف أبنه  المغلق نفعاً ليطمئن عليه، وبعد أسبوع من القلق والخوف على مصيره، تكفَّل أحد أصدقاء الاسرة ، بالبحث والسؤال عنه، لتتضح لهم حقيقة ما حدث له، من أنه معتقل في سجن الكلية، وبدون تهمة واضحة  له.

بعد جهد جهيد، وبإلحاح من أحد الأعمام الذي كان على علاقة بأحد مسؤولي الحكومة، تم إخبار أهله بأن الفتي قد أرتكب جرائم و أنه معترفٌ بها!… لكن ما هي هذه الجرائم؟ وكيف تم التحقيق معه؟ وتحت أي ظروف؟ لا أحد من أهله يعلم!؟.

مرت سنوات وسنوات، ولا يزال  مُهاب قابعاً في زنزانته، رفقة المئات إن لم يكن  الآلاف من أمثاله من شباب ليبيـا ورجالها، من جميع مناطقها، تتسرب أيام حياتهم من بين أصابعهم،  ومعظمهم حالهم كحال هذا الفتى، فلا محامي يقابلونه، ولا محكمة تفصل في أمرهم، ولا زيارة منتظمة يُسمح بها لذويهم، الذين تعتصرهم اللوعة والالم، وهم يتوسلون لهذا ويتضرعون لذاك، وكل ما يحسون به هو الظلم، وكل ما يحيط بمصائر أبنائهم هو الخوف والمجهول.

هذه هي بإختصارحكاية مُعتقل، ومثلها تجثم آلاف الحكايا حبيسة في سجون فبراير، في العديد من مدن ليبيا، وليس هناك من جهات رسمية تأبه بهم  أو تكترث لأمرهم… حتى  هيئة حقوق الانسان التابعة للحكومة، والتي يجلس موظفوها في مقارهم المريحة وسط العاصمة طرابلس، وتصطف سيارتهم الفارهة في موقف السيارات الملاصق لها.

يصدح أعلام الحكومتين ومن يواليهما، كما تكتب العديد من الاقلام، عن قيم 17 فبراير وثوابتها وأهدافها… ولكن ما هي هذه الثوابت؟ ألا يستطيع أحد أن يكتب لنا قائمة بها لنعرفها ونُحاجج بها؟ أليس من ضِمنها الحرية والعدالة، والتي خرج الناس مطالبين بها يوم 17 فبراير؟ أما آن لوزيري العدل أن يعطيا هذه القضية المعقدة حقها ويوليا  هؤلاء المعتقلين   أنتباههما؟ أما آن لقنوات الإعلام الكثيرة التي  تنقل  كل أنواع الاخبار، أن تُذيع  أخبار هؤلاء المُعتقلين؟ أم علينا أن ننتظر زيارة السيد/ مارتن كوبلر لهم لكي تأتيها الشجاعة وتتحدث عنهم؟! أما آن لهذا العبث أن يتوقف؟

(العدالة لأبنائنا في سجـون  فبرايـر، والحرية  لمن أستحق منهم ذلك)

* القصة حقيقة، وهي كما رواها لي أحد أقرب مُهاب، وقد تحفظت على ألإسم الحقيقي، ومكان الوقائع، حفاظاً على سلامته.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

اترك تعليقاً