ليبيا ومربع الإرهابي والفقي والعسكري والسياسي

ليبيا ومربع الإرهابي والفقي والعسكري والسياسي

أميمة خطاب

أستاذة جامعية وباحثة حقوقية ليبية مقيمة في بريطانيا

في ليبيا اليوم، يُمثل الإرهابي والفقي (رجل الدين) والعسكري والسياسي أضلاعاً متساويه لمربع  مساحته مغطاه بمنطق التواطؤ الخفي تحت شعارات الحق والشرعيه والوطن والوطنيه. شيوخ الدين عبر ليبيا يضطلعون بمهمة خدمات الدعم لكل سلطه عسكرية أو سياسية لها نفوذ ترفع شعارات بناء الوطن و محاربة الإرهاب. تطور الامر حتى اصبح هولاء لاعبيين اساسيين في المشهد الليبي تُأخذ آراءهم في كل شارده ووارده. ليس فقط في شئون الدين والدوله ومحاربة الارهاب بل حتى في صياغة دستور البلد ورسم خارطة حقوق مواطنيه، وحتى في السياسه الخارجيه  والعمليه الانتخابيه، وحتى بصدد الاحتفال بيوم الارض و الاعلان العالمي لحقوق الانسان و مولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم الخ.

يمكننا رواية القصه كالتالي: لمحاربة إرهاب داعش وغيرها حاول العسكر والساسه إقناع العامه ان هناك حاجه لرجال دين (مُعتدلين)، ثم إختلقوا كخطوه ثانيه مفاهيم غامضه ومشوِشه للأذهان حول ضرورة رعاية الدوله لهذه الفئه ومنحها (الشرعيه). وماكان ذلك إلا محاوله لتصفية الخارجين عن الإطار او القالب الديني السياسي الخادم لمصلحة الاطراف التي تمتلك القوه. وبدأت التحالفات والصراعات بين عباءة رجل الدين وبدلة العسكري وربطة عنق السياسي تُصدِّع دماغ كل من يحاول تحليلها واتسعت رقعتها لتلتهم الاخضر واليابس وتُضيع بسببها كرامة وسيادة الشعب الليبي في وطنه.

في ليبيا يتبادل الإرهابي وشيخ الدين والعسكري والسياسي الأدوار فوق رؤوس الليبيين والليبيات. انهم الرباعي الحاكم وتربطهم مصالح مشتركه وهم يشربون كل عام نخب المنافع والانجازات الزائفه على قارعة شوارع المدن الليبيه المنكوبه غير آبهين بتدهور احوال المواطنيين من سيء إلى أسوأ. هُم الاربعه يرتدون نفس الأقنعة في مواقف كثيرة اولها الموقف إزاء النظام السابق وتحكيم الشريعه ومعاداة الفكر الغربي والعلمانيه وإزاء حقوق الانسان والتنوع والاختلاف. ايضاً بُنية وغرض السلطة بالنسبه لكل هولاء يكاد يكون واحد.  تصريحاتهم وخطاباتهم شبه متطابقه وتصب في مجملها في إطار التضليل وتزييف الوعي ونبذ الاخر.  نمط تفكيرهم وايدولوجياتهم الظاهره تجعلنا نقول ان كل أضلاع المربع الذي كونه هولاء في ليبيا لها نفس المواصفات تماماً كما علمنا علماء الرياضيات.

لكن كيف يُرسم ذلك المربع وما هي حقيقته؟!
عندما تلح الحاجه، ويعلم لارهابي علم اليقين أنَّ الدولة تحارب التطرف الذي يقتات منه ويعتقد فيه يتنكر ويلبس عباءة الفقيه وشيخ الدين وقد يصل بها لمنصب مهم في مؤسسات الدوله وهيئات الأفتاء المشرعنه. آنذاك، ترى السماء الليبيه تمطر وتمطر وتمطر فتاوى في كل المواضيع ومن كل الاتجاهات تنزل علينا كالصواريخ والقنابل التي تملأ سماء البلد المنكوب بالدخان وصدى الإنفجارات. وقد يُحول بعض اتباع ذاك الارهابي الفقيه تلك الفتاوي إلى رصاصات غادره تحصد أرواح الليبين والليبيات وتحول المدن الى ساحات حرب وسجون.
ولأن الارهابي الفقي يعلم يقيناً أنَّه لن تقوم له قائمه لو لم يصبح جزء من الصراع تجد انَّه حريص كل الحرص على كسب ولاء اصحاب النفوذ في مؤسسات الدوله العسكريه والسياسيه. اخر هم هذا نتائج أفعاله والخراب الفكري والاجتماعي الذي يسببه فهو و بامتياز ناعق الخراب الاجتماعي والفكري والسياسي بالبلد. ولن يتوقف امثاله عن اعمالهم حتا يحولوا ليبيا إلى خلافه اسلاميه مبنيه فوق مقبرة جماعيه فهذا حلمهم القديم الجديد!!

في المقابل قد يكون الفقي (شيخ الدين) إرهابياً. وفي الغالب هو ارهابي ولكن في ثوب مُطرز بعنايه. يسعى هذا دائماً الى إكتساب مكانة لدى العامه والسلطة فتجده يقول أنَّ ما تتخذه الدولة من خطوات لمحاربة التشدد (الذي هو في الحقيقه معشوقته) مهمٌ ويجب مباركته. ولكنه في ذات الوقت لايُضيع فرصه لبث خطاب الكراهيه والتحريض ﻋﻠـﻰ النزاﻋـﺎت والصراﻋﺎت بين فئات المجتمع الواحد. و لكي يعرف الجميع أنَّه يمسك بكل خيوط الشريعه وليظهر كالبطل في مسرحية العسكر والساسه سيعمل على وضع نفسه خازناً على النصوص المقدسة (التفسيرات والاحاديث الداعمه لمنهجه) مانعاً أيَّ مساس بها او اختلاف في الآراء بشأنها. وانظر الى حال دار الافتاء والهيئه العامه للأوقاف اليوم  تحتكران التحدث بأسم الله والدفاع عن دينه  ويصح تشبيه كل فتاويها بالنعم والعطايا إلى الحكام العسكريين والفرقاء السياسيين  في المشهد الليبي.

ولكن لماذا يتم اللجوء إلى هولاء؟

يبدو ان الموضوع برمته لعبة يُستخدم فيها سلاح الدين ضد كل من يعترض ومن يرفض الخطاب الموالي لهذا او ذاك. يغلُب الظن انه يتم اللجوء الى رجال الدين لأن هولاء لديهم المقدره على جعل كل صاحب فكر معارض  ضالاً وكافراً امام العامه والسلطه الحاكمه ويمكنهم اتهام من يشأؤون بألاصطدام بسلطة الله ومعارضة إرادته في الأرض والصد عن سيبله.
العسكر، هم الأمهر في هذه اللعبه، فهم يُجيدون إستخدامها لتحقيق أغراضهم وغسل ادمغة الناس. كل عسكري يحمل تحت بذته شيخ دين يسعى للظهور كمتعلق بألروحانيات وزاهد في الدنيا ومتاعها،،،ملاك مستعد للموت شهيداً في سبيل الوطن. لكن هذا الملاك قد يتخلى عن هذه الايدولوجيه لو وجد انها لن تجدي نفعاً وحينها سيكشر عن انيابه ويلجأ الى العنف وقوة السلاح. في هذه الحالة قد يقول كلاماً معسولاً حول هدفه وغايته فقط ليقتنص الفرصة لمكانة مقبولة لدى العامه. فاللعاب سائل لنيل الغايه والإدعاء واضح للعيان، ومن غير العسكري لتكون رسالته للناس: أنا الأصدق، أنا الأجدر بالثقه، أنا الأقدر على حماية الديار وتولي زمام ألامور.
هذه الرسائل هي الوجه الناعم والخادع لبعض العسكر والغطاء الخفي لهم والذي كان سمه بارزه لهم عندما بداءت عملية الكرامه في بنغازي.  فبعضٌ ممن قاد العمليه عزف على اوتار الأمن والأمان وخاطب الناس بكلام لا يمكن تشبيهه الا كنغم مُضلِل وضائع وسط العنف. لكن عندما دخل هذا الحلبة طالت الذقونُ ورُفعت الاغطيه واحمرت العيونُ وقُطبت الجباهُ واختفى الوجه الناعم. لقد أخرجت الألسنُ أثقالَّها وبدات التصريحات العنيفه وظهرت الشده والجديه في توجيه الاتهامات والانحياز وبداء نوع اخر من الارهاب (ارهاب العسكر) وسجون المنطقه الشرقيه المكتظه بالمعارضين خير شاهد ودليل.

لدعم موقفهم استخدم هولاء بعض ابطال الصاعقه كواجهه لكسب ثقه الناس.  لجأوا ايضاً الى الجماعه السلفيه وأفكارها واساليبها (الفقي الارهابي). فكل تكفير دموي يصدر من هذه الجماعه بمباركة مؤسسة الجيش يستند على مخزون كبير من الروحانيات المفتعلة والتمسكن والتصنع والتذلل بملابس أولياء الله والسلف الصالح. غير أنَّ خطط السلفيين والعسكر لبسط السيطره من خلال رسم حدود للولاء وللتدين والمعتقدات لا مستقبل من وراءها فهي تجهيز لعقول متحجرة لا يمكن وصفها إلا كقنابل موقوته قابلة للانفجار في أي وقت.
عن ضلع السياسيين في المربع الليبي اقول: الكثير من الساسه الليبين بدورهم يأخذون موقع الوعظ والإرشاد ويجملون كلامهم بالآيات القرآنية والأحاديث النبويه. وهو امرلايمت بصله الى العقلانية والبرجماتية المقبولة للصالح العام واللازمه لبناء الدول وحل الازمات الانسانيه. نتيجه لهذه التصرفات أعطى الساسه مبرراً للإرهابي للتدخل وفرصه لرجل الدين للتعقيب وفي المقابل لم يُمنح للمواطن سوى الحق في ان يتفرج على كل هولاء وهم يتجادولون حول معايير غامضة ومتحيزه مُسبقاً لصالح التطرف و التشدد. في ليبيا اليوم،  رغم مزاعم الكثير من الساسه بمناصرة الدولة المدنيه، إلاَّ أن اسلوبهم يؤكد ضياع الحلم بهذه الدوله. إن وضع الدولة على منبر الدين سيحولها الى جثه تنهشها أنياب الوصوليين و اللصوص والمتطرفين والإرهابيين في وقت واحد.
في ليبيا اصبح السياسي يتحدث بلسان رجل الدين والعكس صحيح.  وما كان اياً منهما يجرؤ على هذا لو كانت الدولة تجسد درجه من العقلانية والعلمانيه الحرة الرافضه لأي خطاب يتحرك برسوم الاعتقاد الديني وآلياته. مشكلة السياسي الليبي انه لا يدرك ان السياسة مجال اساسه البناء والتغيير الموضوعي وهو مختلف تماما عن الإقناع الديني والتاثير العقائدي وما يحملانه من ميكروبات مثل التفسيرات المغلوطه للنصوص والأفكار والاحاديث.
السياسي بهذا الاسلوب أسوأ من الإرهابي والفقي المتشدد فهو قد يقصي الآخرين باستخدام العنف السلطوي. الدوله الليبيه يجب ان تُقدم ككيان يسعى في المقام الاول الى التطلع نحو الأفضل في فرص الحياة والاختلاف وحماية حقوق الإنسان. لذلك عندما يتم اختيار الساسه والحكام يجب ان يراعى ان يكونوا بعيدين كل البعد عن فكر وايدولوجية الارهابيين والفقهاء. فالسياسي الذي يخلط بين دينه وعمله لبناء وطنه سيقود لتدمير مفاهيم الدولة الحديثه المدنيه عن بكرة أبيها. تكمن خطورة هذا النوع من السياسيون في كونهم اليد الخفيه للإرهاب فكل اخطاءهم وتجاوزاتهم ستكون غير مرئيه لأنهم محسوبون على السلطه.
الوضع الحالي في ليبيا اشبه بالمتاهه المعقده المصممه بشكل عشوائي جعل المواطن الليبي لايعرف لها بدايه او نهايه. غير ان ابسط حقيقه يمكن ان نعرفها عن هذه المتاهه انها مرسومه في شكل مربع متساوي الاضلاع. الارهابي والفقي (رجل الدين) والعسكري والسياسي هم اضلاع هذا المربع وهم للأسف اشبه بمخلوقات مرعبه هاربه من فلم رعب قديم. مخلوقات ظلاميه تقتات على دماء الليبين والليبيات وتمزق بأسنانها الحريات والحقوق تباعاً.

ويبقى السؤال: هل هناك امل ان تقوم دولة القانون وحقوق الانسان رغم وجود مربع الظلام والمصالح والادوار المتبادله؟!

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

أميمة خطاب

أستاذة جامعية وباحثة حقوقية ليبية مقيمة في بريطانيا

اترك تعليقاً