الإعلام الساخر من العالم إلى ليبيا

الإعلام الساخر من العالم إلى ليبيا

الاعلام.. صناعة وتطور

الإعلام، مثله مثل أي شيء آخر في الكون، مر بمراحل عديدة، وربما بإمكاننا أن نسمي فترتنا الآنية باسم “عصر الإعلام الساخر”، ذلك أن العديد من الإحصائيات واستطلاعات الرأي تشير إلى أن نسبة مشاهدي البرامج الساخرة هي الأعلى، وأبرز مثال على ذلك هو البرامج السياسية الساخرة.

السخرية السياسية باتت اليوم هي المدخل المفضل لعالم الأخبار والسياسة بالنسبة للمشاهد في نواح كثيرة من العالم، حتى أنها باتت مصدر الأخبار الرئيس لقسم كبير منهم، كما أفادت تقارير مركز بيو للأبحاث في واشنطن. ما يميز السخرية السياسية في العالم الديمقراطي أنها ليست مساحة للاستهزاء وإضحاك المشاهد فقط، بل إنها وسيلة مهمة جدا “لإنارة العقول وإذكاء الوعي وتعرية السياسيين أمام الرأي العام” كما قال الكاتب الكبير فهمي هويدي*.

السخرية .. نقد وتوعية

وفي كثير من الأحيان تتعدى السخرية ذلك إلى أن تلعب دورا أكبر في تقبل المجتمع لمجموعة أو أقلية معينة، خصوصا في المجتمعات المتنوعة التي تعاني فيها الأقليات من “ظلم” سياسي. مثيل ذلك ما يحدث للمسلمين في أمريكا من تلقيهم للإساءات من بعض الساسة وبعض وسائل الإعلام. قبل يومين سُئل رضا أصلان، وهو أمريكي مسلم من أصول إيرانية وبروفيسور الأديان في جامعة كاليفورنيا، سُئل عن مدى اندماج المسلمين في الثقافة الأمريكية، فقال: “إن المسلمين لن يشعروا بكونهم جزءا من أمريكا ما لم يتم السخرية منهم علنا في الإعلام”** في إشارة واضحة منه لأهمية السخرية في تشكيل الرأي العام.

باسم يوسف.. تجربة وريادة

بالنظر للإعلام في الشرق الأوسط، تكاد تخلو الشاشة من أي برامج سياسية ساخرة خصوصا بعد وقف برنامج البرنامج لباسم يوسف، باستثناء الإعلام اللبناني بالطبع. لعل السبب الرئيس يرجع في هذا إلى أن السخرية السياسية لا تنمو إلا في بيئة ديمقراطية، البيئة التي لا تتوفر إلا في لبنان وتونس إلى حد ما اليوم في المنطقة. ثمة سبب آخر متمم للأول وهو ثقافة المجتمع، ثقافة المجتمع الذي حارب باسم يوسف في مصر حينما قرر المضي في مشروع السخرية من الحاكم بغض النظر عن مرجعيته وخلفيته.

جون ستيوارت، رائد هذه الصناعة في أمريكا، كان يطنب في مدح باسم يوسف كلما ذُكر الأخير، يقول ستيوارت: “لمن لا يعرفني، أنا باسم يوسف الأمريكي، أنا أقدم برنامجا شبيها لبرنامج باسم، إلا أنه يقدم برنامجه في بلد لا تمثل فيه السخرية السياسية قانونا راسخا”***. هذه المشكلة هي التي، للأسف، جعلت من ملايين الناس الذين تابعوا وأعجبوا بباسم يوسف وهتفوا باسمه حينما كان يسخر من مرسي، جعلت منهم يسبونه ويشتمونه إذ وقف من أجل “هدف أسمى” وهو السخرية من أجل التعبير، حينما سخر من السيسي.

محاولة باسم يوسف كانت محاولة جريئة ولكنها مثل محاولات واعدة أخرى اغتيلت بسرعة. يقول فهمي هويدي: “اذكروا بالخير باسم يوسف لأنه لم يمكن من أداء هذا الدور فى مصر، فخسرنا كثيرا حين ضاقت الصدور حتى بذلك النوع من المرح”.

تجارب ليبية.. الدراما السياسية

بالعودة إلى الإعلام الليبي الناشيء، حاول مجموعة من الشباب إقحام السخرية في واقع الناس وجعلها جزءا من الثقافة العامة للشعب. ربما يصعب تعداد المحاولات ولكن أبرزها: مسلسلات الفنان صالح الأبيض بعد الثورة، بقعة جو، مجموعة ستة مليون مضايق، ومحاولات الشاب فؤاد القريتلي، هذا إذا ما استثنينا وسائل التواصل.

بغض النظر عن التقييمات الفنية، كانت محاولات الفنان صالح الأبيض، خصوصا في مسلسله الاخير في رمضان الماضي والذي مثّل فيه دور عضو بالمؤتمر الوطني، ناجحة إلى حد كبير. كانت محاولات مباشرة ودقيقة. لعل أبرز ما ميزها خفة ظل الممثل وابتعاده عن استعمال أي ألفاظ يمكن اعتبارها مسيئة لأي شخص.

بقعة جو كانت من أولى التجارب، بدأت في 2010، تميزت بكونها تخاطب الناس بطريقة فريدة وبأنها في معظمها تلامس المشاهد بصورة مباشرة. هذه المحاولات الجريئة لحسن الحظ لم تتعرض للانتقاد و”الاستحقار” ولعل اقتصار عرضها على شهر رمضان هو ما جنبها ردة الفعل السلبية. ردة الفعل هذه تعرضت لها مجموعة ستة مليون مضايق، إلا أن ضحيتها الأبرز في نظري هو فؤاد القريتلي، بدءا من أغنيته الساخرة “ندوش بالمالقي”.

ما دفعني إلى ذكر هذه التجارب الأربعة هو كونها الأقرب للسخرية الحقيقية الهادفة، تلك التي لا تتحيز إلى جانب معين بقدر ما تسعى لتبيان الحقيقة وطرح القضايا العامة في قالب كوميدي مضحك. هنالك بالطبع محاولات أخرى ولكنها لم تكن دائما ملتزمة بما أسماه جون ستيوارت “الهدف الأسمى” وهو السخرية من أجل ترسيخ مفهوم حرية التعبير.

باختصار، السيادة في الشاشة اليوم للإعلام الساخر، ولا مناص للشعب من ضرورة تقبل النكتة سواء كانت له أو عليه، لأن النكتة كلمة، والكلمة هي مفتاح الحقيقة.

______________________

* “عن السخرية السياسية” فهمي هويدي، جريدة الشروق 10 اغسطس 2015
** رضا أصلان لراديو كي بي سي سي 89.3، 25 فبراير 2016
*** جون ستيوارت في حفل منح باسم يوسف الجائزة الدولية لحرية الصحافة 2013

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

اترك تعليقاً