عليهم مش علينا يا بابا

عليهم مش علينا يا بابا

يتحدث نعوم تشومسكي في كتابه “الدول الفاشلة” عن العقائد السائدة في العلاقات السياسية بين الدول، فيقول بأن مصطلح “المعايير المزدوجة” هو مصطلح “مضلل”، ويقرر الفيلسوف الأمريكي بأنه “من الأدق وصفها بالمعيار الأوحد”، ذلك المعيار الذي أسماه آدم سميث “المبدأ الخسيس”. هذا المبدأ يمكن اختصاره بالعبارة التالية: “كل شيء لنا، ولا شيء لغيرنا”(1) يضرب تشومسكي بالإرهاب مثلا لتفسير هذا المبدأ فيقول: “هنالك معيار وحيد وصريح: إرهابهم ضدنا وضد من يوالينا هو الشر المطلق، بينما إرهابنا ضدهم غير موجود”.

لا شك أننا كشرقيين، للأسف، وقعنا ولا زلنا الضحية الأبرز لهذا التفكير غير السوي، نرى ذلك في وسم المسلمين بالإرهاب، في الوقت الذي لا تتوقف فيه الآلة العسكرية الأمريكية والصهيونية وحلفائهما عن سفك دماء أهل الشرق في أفغانستان والعراق وسوريا وغيرهن. رغم أن هذا التفكير غير سوي بالمرة، ورغم أنه يوحي بفساد متأصل في عقلية من يعتنقه، ولكن مع ذلك يمكن أن نتفهم صدوره عن الغرب ممثلا في الولايات المتحدة وحلفائها، لسبب بسيط كون أن هذه الدول مارست ولا تزال تمارس دور الجلاد في اللعبة الدولية القذرة.

من جهة أخرى، يبدو الأمر مقززا ومثيرا للاشمئزاز إذا ما صدر عن طرف سياسي في الشرق، ليس تجاه الغرب، بل تجاه طرف سياسي آخر في الشرق نفسه. بمعنى، يمكن تفهم هذا السلوك تماما كما يمكن تفهم حب الجلاد للتعذيب كونه لم يكن ضحية أبدا وكونه لا يستشعر الآلام الناتجة عن فعله. ولكن بطبيعة الحال، لا يمكن أن نتفهم تحول الضحية إلى جلاد يمارس صنوف التعذيب، لا مع الجلاد السابق، بل مع ضحية أخرى عاينت الظروف ذاتها من قبل. قد يبدو الأمر معقدا، ولكن لتبسيطه سأضرب هذا المثال: حينما حدثت أحداث باريس الأخيرة، اتُهم المسلمون ووسموا بالإرهاب وكيلت لهم من الاتهامات والشتائم الشيء الكثير، في الوقت ذاته كانت أمريكا وفرنسا وروسيا يمطرن العراق وسوريا بوابل من القذائف والصواريخ التي أدت لمقتل العشرات بل المئات من المدنيين الأبرياء ممن لا ناقة لهم ولا جمل في الصراع الدائر بالمنطقة. مع ذلك، لم يمنح الإعلام الغربي من تغطيته اليومية لأحداث باريس ولو ثوان قليلة للحديث عن الضحايا الأبرياء في الشرق، سوريا بالذات. ما حدث في باريس وتعاطي العالم معه هو تجسيد حي للمبدأ الخسيس كما أسماه آدم سميث.

مثال آخر لما يحدث في الشرق: في 2013 تم اقتحام قنوات العاصمة والدولية في ليبيا، ويومها خرج البعض مهللا ولم يخف سعادته بالأمر، بينما أدان بعض آخر هذا الفعل بشدة. الطرف الأول أدان واستهجن واستنكر التهجم على قناة النبأ في مصراتة بالأمس، بينما أظهر الطرف الثاني سعادة وابتهاجا بالغين.(2)

حدث هذا في ليبيا، وفي مصر حدث شيء آخر: انتقد جزء من الشعب حكومة الرئيس محمد مرسي، فخرج إعلاميون معارضون له واستغلوا حنق الشعب، رغم ان عمر الحكومة وقتها لم يتجاوز أشهرا تعد على أصابع اليدين. الإعلاميون أنفسهم استهجنوا انتقاد جزء آخر من الشعب لحكومة السيسي حينما كان عمرها أشهرا تعد على أصابع اليدين، متحججين بأن الحكومة “لا تملك عصا سحرية”، المقولة ذاتها التي سخروا منها أيام مرسي.(3)

تنبغي الإشارة هنا إلى أن هؤلاء جميعا لعنوا الغرب ولعنوا ازدواجية معاييره قبل أسابيع قليلة في أحداث باريس.

وقس على هذا المثال أمثلة عديدة يصعب حصرها في ليبيا ومصر وتونس وفي بلدان الشرق العزيز جميعها.

أقل ما يمكن أن يقال عن هذه الأحداث هو أنها إشارات واضحة لمعضلة أخلاقية تواجهنا جميعا لعلها ناتجة عن المنظومة الأخلاقية التي أضعناها منذ عقود، فما دمنا نقبل لغيرنا ما لا نقبله لأنفسنا، يصعب جدا أن نتعايش… هي قاعدة قديمة حتمية لبناء مجتمع قوي: لا ترضى لغيرك ما لا ترضاه لنفسك.


(1) الدول الفاشلة: نعوم تشومسكي، ص 11، ترجمة: سامي الكعكي.

(2) تشكل هذه الأحداث، بغض النظر عن الفاعل والمفعول، انتهاكا صارخا وتقييدا لحرية التعبير.
(3) يمكن مشاهدة أمثلة على هذا من خلال هذا الرابط.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

اترك تعليقاً