ما وراء الابتهاج والانزعاج

ما وراء الابتهاج والانزعاج

فور صدور حكم الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا ببطلان قرار تشكيل لجنة فبراير وما انبثق عنه من ترتيب انتخابات مجلس النواب لاستكمال الفترة الانتقالية وما ترتب على ذلك من قرارات وإجراءات متسرعة غير مدروسة، أصابت بعض الناس حالة هستيرية من الابتهاج والانزعاج؛ ولهذه المجموعة وتلك حسابات فردية آنية خاصة لا داعي للوقوف عندها. كُثر ابتهجوا لصدور هذا الحكم إيمانًا منهم بأن القضاء هو صمام الأمان للدولة بقدر ما يكون الدستور هو الحصن الحامي للحقوق والصائن للمصالح.

في عصرنا الحالي، لم تعد الدساتير وحدها قادرة على حماية أنظمة الحكم وصيانة سلامة واستقرار الأوطان مهما كانت قوتها وعدالتها ورصانة أحكامها، بل إنها تحتاج إلى جانبها مسؤولين مؤمنين بالدستور ومستعدين للدفاع عنه والنضال من أجل الالتزام به، وتحتاج أيضًا إلى مواطنين واعين يدركون أن مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، وأن هذه المصلحة لا تتحقق ولا تتأتى إلا بصيانة واحترام الدستور والالتزام بأحكامه والتقيد بالقوانين الناجمة عنه.

وبنظرة سريعة لمدلول الحكم الصادر ببطلان لجنة فبراير وما ترتب عليه ونتج عنه، نجد أن مبعث الاعتزاز والابتهاج بهذا الحكم بعيدًا عن الحسابات الشخصية الضيقة إنما يكمن في أنه يؤكد أن الدستور وقواعده التشريعية تخون العواطف والانفعالات، وأن الدستور باعتباره قواعد عامة تحدد ثوابث وأسس الدولة والمجتمع لا تتأثر بآراء الأفراد وأهوائهم وأمزجتهم، بل تلجمها وتعيدها إلى جادة الرشد والصواب وتصونها عن الانفلات!

فالكل يعلم أن المؤتمر الوطني العام إنما اضطر لتشكيل لجنة فبراير تحت ضغط الإعلام والشارع الذي فهم وقتها أن مهمة المؤتمر تنتهي بتاريخ محدط هو 7 فبراير وليس بتحقيق وتنفيذ ترتيبات ومهام معينة أهمها إعداد الدستور والاستفتاء عليه وإجراء انتخابات تشريعية، كما هو وارد في الإعلان الدستوري.

وإنني إذ أحيي هيئة المحكمة الموقرة وأؤكد سروري بالحكم الصادر عنها، وهو ما ليس غريبًا عن هذه المؤسسة العريقة، فقد اتخذت قبل ستين عامًا موقفًا مماثلًا سنة 1954، أسجل تقديري واحترامي لأولئك الرجال الوطنيين الذين احتكموا للقضاء اقتناعًا منهم بأن الدستور هو حصن المصالح وأن القضاء العادل هو صمام الأمان، وأريد أن أقول هنا أنه رُبّ سرور بهذا الحكم لأغراض فردية سيبتئس صاحبه في المستقبل حين يجد القانون ضد مصالحه الشخصية وشطحاته الغوغائية، ورُبّ مبتئسٍ بهذا الحكم سيحمد عاقبةَ الأمر لأن القانون فوق العواطف وأسمى من التشفي والشطحات.

وبقدر ما سرّني الحكم، لا لأنه ضد هذا أو ذاك كما توهم السطحيون والجهلة والمغفلون، ساءني – بحق – انفعال بعض المتصدرين للمشهد السياسي حتى وصلت به درجة التردي والانحدار إلى الإعلان جهارًا عن رفضهم للحكم!

هل غابت عن هؤلاء مأساة الدكتاتورية؟ أوليست الدكتاتورية من أساسها فكرة تتغمز في ذهن الفرد فتدفعه لتجاهل الدستور والاستخفاف به، ويثير عاطفة البسطاء بوسائل مختلفة فيتخذهم مطية لرغباته وشهواته الدموية ثم يسومهم سوء العذاب والتنكيل خين يستقر به المقام في السلطة ويتسلط، وعندها يندم هؤلاء ندامة الكسعيّ ويدفعون ثمنًا لم يتصوروه يومًا! ولكم من شواهد التاريخ عبر ودروس لمن أراد أن يعتبر!

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

التعليقات: 2

التعليقات مغلقة.

التعليقات لا تعبر عن رأي موقع عين ليبيا، إنما تعبر عن رأي أصحابها.

اترك تعليقاً