العدالة الإنتقالية و المصالحة الوطنية فى الدستور

العدالة الإنتقالية و المصالحة الوطنية فى الدستور

هناك مساران للعدالة الإنتقالية يتم االتعامل معهما لمعالجة قضايا الإنتهاكات و حقوق الإنسان فى الدول التى شهدت صراعات مسلحة . المسار الأول يرتكز على التقيد بالقانون و اتخاذ التدابير المناسبة وفق المعايير الدولية فى هذا الشأن, و يدعو لإنشاء المحاكم لتطبيق القانون الدولى . و هؤلاء يعارضون مبدأ العفو عن الجرائم المرتكبة فى مجال حقوق الإنسان , و يرون الحاجة لضرورة وضع مرتكبى العنف تحت طائلة المحاسبة القانونية لما ارتكبوه من اعمل وحشية , و يرفضون سقوط هذه القضايا بالتقادم.

المسار الثانى و هو المسار البرغماتى أو السياسي, و هو  ينطلق من النتائج و يرتكز بالدرجة الأولى على اولويات انهاء العنف و تحقيق السلام, و يرى بأنه من المهم أن ترتبط عملية العدالة الإنتقالية بموضوع المصالحة الوطنية, و اعطاء اطراف النزاع فرصة العفو حتى يدخلوا فى عملية السلام و تتم عملية التحول الديمقراطى بشكل آمن[1].

و بالإضافة الى  اهمية مرتكزات العدالة الإنتقالية المثمثلة فى محاكمة الأفراد المسئولين عن ارتكاب جرائم ضد الإنسانية,  و تعويض الضحايا, و تشكيل لجان الحقيقية لثوثيق الإنتهاكات, و عزل الأشخاص المتورطين من تولى المناصب , الا ان العقد الأخير قد شهد تناميا كبيرا من قبل الباحثين و العاملين فى هذا المجال الذين يدعون الى ربطها بعملية المصالحة . حيث انهم يرون أن المصالحة  ضرورية لإحلال الإستقرار و ارساء السلام فى الدول التى تشهد صراعات مسلحة. و عملية المصالحة فى نظر هؤلاء ترتبط ايضا بالتنمية السياسية, و المساعدة الإجتماعية و الإقتصادية, و الأمن. و هى ذات شقين, الأول معنى بالقيادات المسئولة عن الصراع , و الشق الثانى معنى بالمجتمع ككل حتى يستطيع المجتمع معالجة قضايا الماضى و لا يعود للعنف ثانية[2].

و على الرغم من أن الإتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان و منع التعذيب, تلزم الدول بالتعاون لمحاكمة منتهكى هذه الحقوق و تحضها على التعاون مع محاكم الجنايات الدولية و تسليمهم , الا أن العقدين الأخيرين قد شهذا تحولا فى النظرة الدولية لقوانين العفو التى تصدرها بعض الدول  التى تعيش صراعات مجتمعية مسلحة و تخوض حالة من الحرب الأهلية. بل اصبحت قوانين العفو هذه  تحظى بتشجيع و دعم المجتمع الدولى, و ذلك بهدف ايقاف حالات العنف و تحقيق السلام [3]. فعلى سبيل المثال فى سنة 2009 قبيل انتهاء الصراع فى سيريلانكا, صدرت تصريحات دولية بالعفو على نمور التاميل الذين يقومون بتسليم انفسهم و لم تشر هذه التصريحات الى الدعوة لمحاكمة من قام منهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.  بل ان المجتمع الدولى قام فى بعض الأحيان بتمويل قوانين العفو, مثل الذى صدر فى اوغندا و الذى  عفى عن كل المتمردين,  و منهم جيش الرب و قد شمل العفو جرائم ضد الإنسانية قام بها هذا الجيش . ان هذا بالطبع لا يعنى التساهل مع مرتكبى الجرائم  وغض النظر عن افعالهم, و لكن لأهمية قوانين العفو فى ايقاف عمليات العنف و انهاء الصراع, و للتشجيع على تسليم الأسلحة, كان دافعا للمجتمع الدولى على تشجيع هذه المبادرات رغم ما يصاحبها من آلام و ذلك من اجل الحد من العنف و تحقيقا للسلام .

بالنسبة لدول اوربا الشرقية, فإنها بعد الثورات التى قامت بها و اسقطت النظم الشيوعية التى كانت تحكمها فإنها كانت اقرب الى  الى المقاربات السياسية فى معالجة مآسى الماضى حيث ,” شكلت بلدان عدة فيها مجموعات نيابية او مجموعات مستقلة للتحقيق فى جرائم الماضى ليس لغرض المحاكمات بل للوقوف على حقيقة ما جرى فى الماضى و الإعتراف به”[4]. بل ان حتى تشيكوسلوفاكيا عند معالجتها لإنتفاضة 1968 والتى تم  قمعها بالقوة بتدخل  سوفيتى مباشر, فإن البرلمان التشيكى و فى اطار العدالة الإنتقالية قد اصدر قانونا فى سنة 1993 شمل تنديدا بالنظام الشيوعى السابق, و يحمله المسئولية الأخلاقية و السياسية عما حدث و يعتبره غير شرعى . كما نص القانون على رد الإعتبار لضحايا تلك الأحداث و تعويضهم , و لم تتم محاكمة المسئولين عن تلك الأحداث الدامية التى حدتث آنذاك[5] . و تعتبر جنوب افريقيا ربما من اقرب الأمثلة فى التعامل مع الماضى و تطبيق العدالة الإنتقالية حيث تعرض السكان السود لكل انواع الإضطهاد لعقود عدة اثناء حكم الميز العنصرى. عند انهاء الصراع المسلح و دخول الأطراف المتصارعة فى عملية السلام , فقد تم انشاء هيئة الحقيقة و المصالحة لتتولى عملية التعامل مع الماضى و معالجة انتهاكات حقوق الإنسان التى تعرض لها السكان السود. كان هدف لجنة الحقيقة و المصالحة الوطنية, الى جانب معالجة انتهاكات الماضى, هو العمل ايضا على انتقال المجتمع بطريقة عادلة و سلمية الى مرحلة الإستقرار و العبور للمستقبل, مع ضمانات عدم التكرار لما حصل من انتهاكات و اعادة بناء الثقة بين المواطنين. و لقد اعتمدت اللجنة مبادئ العفو مقابل الإعتراف و الإعتذار, و كشف حقيقة الإنتهاكات , وجبر الضرر للضحايا , و تقديم مقترحات لمنع تكرار ما حدث مستقبلا[6].

كذلك الحال كان فى دول امريكا الجنوبية مثل البرازيل, و تشيلى, و الأرجنتين, فعند تحولها من انظمة عسكرية دكتاتورية لإنظمة ديمقراطية خلال الثمانينات, فقد انتهجت ايضا المقاربة التصالحية فى معالجة مشاكل الماضى و انتهاكات تلك الحكومات العسكرية,من اجل ضمان انتقال سلس الى انظمة ديمقراطية يحكمها القانون .

نخلص من كل ما تقدم بأن اغلب الدول التى عاشت صراعات مجتمعية مسلحة, أو عانت من الدكتاتورية و تعرضت لإنتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ,فإن هذه الدول و لتعبر بسلام نحو الأمن و الإستقرار, فقد تعاملت مع معالجة مآسي الماضى بروح تصالحية لا تخل بحق الضحايا من جهة و لا تعتمد مبدأ العقاب كاسلوب لمعالجة تراكمات الماضى من جهة اخرى,  و لقد نجحت هذه الدول فى اعادة بناء الدولة على اسس جديدة تعتمد الديمقراطية و تحترم حقوق الإنسان.

من هنا فإنه من المهم جدا لنا فى ليبيا و نحن نتطلع لبناء دولتنا من جديد, ان نلتمس  نهج المصالحة الوطنية فى معالجة موضوع العدالة الإنتقالية  حتى نحقق السلام فى بلادنا . لقد كشفت الخبرة الإنسانية الواسعة فى  هذا المجال, بأن تحقيق السلام هو الضامن الأكيد لإنهاء العنف و ليست الإجراءات العقابية التى يطالب بها البعض, فإيقاف العنف و انهاء حالة الإحتراب , أولى من الملاحقة الغير مجدية و التى تدفع لمزيد من الصراع و مزيدا من الإنتهاكات لحقوق الإنسان .

علينا ان نؤكد  فى الدستور على ضرورة ربط العدالة الإنتقالية بالمصالحة الوطنية ربطا قويا و أن نترك للهيئة التى تنشأ لهذا الغرض مثل لجنة الحقيقة و المصالحة  الإختصاص فى ملاءمة تقدير رفع الدعوى الجنائية , و فى حق اصدار العفو عن الجناة وفق آليات و ضوابط تضعها هذه الهيئة  تضمن الرضا المجتمعى و تحقق المصالحة الوطنية .

[su_divider text=”إلى الأعلى”]

[1] Leslie Vinjamuri and JackSynder, Advocacy and Scholarship in the Study of International War Crime Tribunals and Transitional Justice. Annu.Rev. Sci. 2004

[2] Martina Fischer, Transitional Justice and Reconciliation Theory  and Practice, Advancing Conflict Transformation, The Berghof Handbook II, 2011

[3] Louise Malliner, Amnesties Challenge to the Global Accountability Norm , Brazil in Comparitive and International Prespective Conference, University of Oxford,23 Oct. 2010.

[4] نويل كالهون ( ترجمة ضفاف شوربا) , معضلات العدالة الإنتقالية فى التحول من دول شمولية الى دول ديمقراطية , تجارب من دول اوربا الشرقية, الشبكة العربية للأبحات و النشر , بيروت 2014.

[5] Politics of Transitional Justice : German, Hungaria< and Czech, Decisions on ex. Postfacto Punishment, New School University .

[6] Laura Mc Leod  , Reconciliation through Restorative Justice: Analyzing South Africa,s Truth and Reconciliation Process, George Mason University, Spring 2015.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

التعليقات: 1

  • fituri

    أين الدستور يادكتور ألبدري لاوجود له فمن شهران وثلاثة الى سنين مشاء الله ومن البيضاء الى عجمان والقادم قد يكون في بكين حسبي الله ونعم الوكيل..

التعليقات مغلقة.

التعليقات لا تعبر عن رأي موقع عين ليبيا، إنما تعبر عن رأي أصحابها.

اترك تعليقاً